ملف العدد .. التجديد

مقدمة الملف

يواجه التجديد الديني حملة تشكيك من الوطنيين والقوميين المخلصين والمتعصبين على حد سواء، كما أنه بالطبع يواجه التهمة نفسها من الدينيين المحافظين، وربما من الحكام والسلاطين، حيث يشير الجميع إلى أن دعوات التجديد إنما هي بغرض موائمة الدين لحاجات غربية سياسية وثقافية، وأنها وسيلة من وسائل تهجين الدين.

وفي الوقت الذي لا يمكن لنا أن ننفي التهمة عن كل من تصدى للتجديد الديني حيث لا يخفي بعضهم غرضه من التجديد والمتمثل في مواكبة الحضارة الغربية، فإننا أولا لا نريد أن نشكك في صدق نوايا هؤلاء لمجرد سعيهم نحو المشاكلة مع مظاهر التقدم الغربية، إذ ربما الأمر نابع من ظنهم أن عزة المسلمين وتقدمهم تقتضي هذه المشاكلة، وإن كنا نرى أن التجديد هو ضرورة لمواكبة الزمن ولعدم التخلف عن العصر كل العصر، سواء قبل تقدم الغرب وبعد تقدمه، بل التجديد ضرورة لاستباق الزمن لا مواكبته، ولصناعة التقدم لا مجاراته.

وبهذا يتضح موقفنا في جمعية التجديد من عملية التجديد، فهي ضرورة لا ترف، وهي منهج لا منقلة، وليس هدفه الموائمة مع العالم بقدر ما هي استباقه وإثبات قدرة الإسلام على الفوز ونيل العزة، فالعزة هدف أساس في التجديد لا التبعية، والتجديد عامل تميز لا تماهي، ووسيلة فرق لا مشاكلة، اللهم إلا فيما توصل له الغرب من أفكار تنويرية إنسانية، كمثل مواثيق حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، وحقوق الأسرى، وحماية البيئة، الأمور التي لا يختلف عليها عقل سوي وضمير حي، فالتجديد لا يحمل روح التعصب وإلا لكان تخلفا لا تقدما، ولا يمكن له أن يعادي الحكمة كيف وهي ضالة المؤمن؟! ولكنه أيضا لا يريد أن يصوت بالموافقة مع كل فاسد العقل، منحرف الطبع، طافح الشهوة، متعال النفس، باخس الحق، معتد أثيم، لمجرد أنه غربي غني قوي متقدم القدرة مهاب السطوة.

وإذا كان لنا أن نصف بعض معالم التجديد الذي نؤمن به فمن الممكن أن نقول: إن التجديد الديني، يؤمن بالزمن سيرورة تغيير، ولكنه يؤمن بالقرآن نصا جعله قائله حمّالا، لينال من معانيه كل أهل زمان بحسب قدراتهم، الأمر الذي عبر عنه القدماء بالبطون السبعة وماهي بسبعة، ويعبر عنه علم اللسانيات بشراكة القارئ في معاني الكاتب حسب الأحوال والأزمنة، أو كما قيل مجازا: ”موت الكاتب“.

إن أول ما ينبغي تغييره في العقل المسلم، هو التحول من التعلق بالقوالب والأشكال، إلى الارتباط المتجدد والدائم بالمقاصد والقيم، التي تولد بشكل مستمر أنواعا مختلفة من القوالب والأشكال مع تغير الزمان والمكان والأحوال، فالقصد من تشريع الزكاة هو إثبات الحق العام في المال الخاص، ثم كانت التفاصيل في المقادير والأنصبة بما يناسب جهات الاستثمار وطبيعة الظروف ومستوى الرخاء في مجتمع النزول، وهي قوالب يجوز الخروج عليها في بلاد أخرى وظروف أخرى ومستويات اقتصادية أخرى.

فينبغي علينا مواجهة المستجدّات لتلافي الخلل عن طريق التدخّل في حركة التشريع تنظيماً لأحوال المجتمع، واضعين مقاصد الشرع موضع الممارسة الفعلية، وإنْ خالفت أقوال المحافظين على القوالب والأشكال من الفقهاء واجتهاداتهم.

جملة من القوانين تنظم الكون كله وتحكمه، وإن معرفة منطق هذه القوانين يعني فهم الأسباب والمسببات، يعني الفهم الأولي للظواهر القابلة للتوقع، و الوعي العام لمجريات الأمور وآثارها، أو بلوغ حد من تطبيق الحكمة، إن تعلم وتعليم الحكمة مهمة أرادها الدين وبدأ بها،(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، وأمر بأن تظل ضالة المؤمن، وما الحكمة إلا معرفة وفهم جملة القوانين التي تنظم الكون وتحكمه، ومن ثم توقع النتائج والعمل على تطبيقها، وهذه عملية مستمرة ولا نهائية، لأن علم الله لا نهائي.

التجديد ليس تهديدا، وإنما سبيلا بالتي هي أحسن، لتجديد الوعي، وتنبيه الفهم، وأخذٍ بالعلم، وتبيانِ المنطق، وتساوي الحقوق بين الناس، وتحرير الضمير ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾

إن الأداة الأكثر استعمالا في إدارة شؤون التفكير المنظم وإنتاج المعرفة، هي صياغة وإنتاج ألوان كثيرة من الأسئلة المركبة وتهذيبها، فتهذيب الأسئلة يؤول إلى توليد المعرفة وخدمتها، والسؤال مفاتيح لمستودع خبرات واسعة، بسعة الوجود.

فمن هنا نستطيع أن نتعلم الكثير، نتعلم ما لم نكن نحصل عليه من قبل، وما لم نكن بحاجته أصلا، إما لعدم معرفته أو الجهل التام به، ما العلم إلا سؤال وجواب، وما الفقه إلا سؤال وجواب، وما الثقافة إلا سؤال، وما الجواب إلا عن معرفة.

إن تضليل عقول العباد باسم الدين من أشد أدوات القهر نفاذا إلى أعماق الضمير بغية كسره أو تطويعه لأهداف ضد وجوده وحياته،إنها عملية إخصاء الضمير تلعب بها إرادة الدوائر السياسية دورا رئيسا، فهي لا تقدم حلولا ولا وصفات وإنما تكتفي بضرب الرقاب تحت مسمى مخالفة الدين أو غيره من المسميات.

إن كثيرا من الناس للأسف مولعون بانعكاساتهم التي تلتهم عقائد ومبادئ ومواقف الآخر، بل إن كلَّ شيء يجب أن يُفسَّر بهم، وإلا فكل من خالفهم خائن مارق وضال، فهم دائماً الوحدة القياسية للإله والدين والمذهب والناس والمأكل والمشرب والملبس والقيام والقعود وكلِّ الأشياء، فهم عصارة الوجود، وبقية الله في الأرض وما دونهم (لا شيء) .

الانتقال من التقليد للتجديد في حد ذاته نقد لمشروعية التقليد، ورجوع عن حالة طارئة (إذ التقليد حالة طارئة فائدتها ترسيخ مبادئ الحق) إلى حالة أساسية، فمنها تقدم البدائل ومنها تنطلق أمواج ورياح التغيير.

فوحدة الأمة ونهضتها أو عودتها كطرف فاعل ومؤثر في الإنسانية والعراقة والنفوذ يمر عبر امتلاك ناصية التجديد، فالتجديد هو جسر العبور بثبات بين وهم الماضي ومبهمات الحاضر وغيب المستقبل.

التجديد هجرة إلى المستقبل وحياة أفضل، التجديد خطوة ضرورية نحو الإصلاح، وخطوة واقعية للتقدم، وخطوة وقائية للثبات على المبدأ، التجديد قدرتنا على التعامل مع عدد من الأفكار وتعريفها وإدارتها في الاتجاه الصحيح، التجديد قوة دافعة نحو الإحساس بالمشكلات واحتوائها.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *