عاش الإنسان معتقدا ولمئات السنين أن الأرض هي محور الوجود ومركز الكون وأن جميع الأفلاك بما فيها الشمس والقمر وباقي النجوم تدور حول الأرض، ذلك الكوكب الضخم الزاخر بالثروات والمعاجز كما كان يظن، لقد كان يصعب على الإنسان حينها تخيل أمر آخر غير ذلك لأنه ماكان ليقارن من حيث الأهمية والعظمة جبالا شامخة عالية، وبحارا واسعة مخيفة، وأنهارا ممتدة، ووديان سحيقة، وسهولا خضراء، وصحاري قاحلة قاتلة… ماكان ليقارن عظمة كل تلك الظواهر التي كان يلمسها لمس اليد بأخرى ليست إلا بعض النقاط المضيئة الباهتة في صفحة السماء هنا أو هناك (إذا ما استثنينا من ذلك الشمس والقمر)، لذلك كان من الطبيعي والمنطقي أن يستنتج أن الأرض وما تحويه من مظاهر خارقة هي محور الكون ولا شك. ولكن ومع تطور علم الفلك والأرصاد من لحظة اختراع العالم الإيطالي جاليليو للتيليسكوب وما رافقه من اكتشافات كبيرة عن بعض أسرار هذا الكون بما يحويه من أجرام هائلة وظواهر خارقة أصبح الإنسان يحس بحقارة ماكان يعتقده سابقا وبما يراه من مظاهر العظمة الأرضية قبال ما يرصده الآن من تلك العوالم الفضائية، وانقلبت حينها تلك القناعة من أن الأرض هي محور هذا الكون بالعلم.. والمنطق…! وبدأ ذلك الإنسان المبهور يتساءل بصدق.. هل يعقل أن يكون كل هذا الوجود الضخم له فقط؟؟
يبدو أن الإحساس بالمحورية والأصل إحساس شبه طبيعي وملموس عند الإنسان تقتضيه الطبيعة الجسدية والنفسية ولربما يشير إلى عظمة الأنا عنده، هذا ويمكن اكتشافه منذ السنين الأولى لمولده والذي قد يوحي بغريزته عند بني البشر، فالطفل الصغير يعتقد بأن جميع ما حوله من مظاهر بما فيها وجها والديه الباسمين إنما هي أمور تخصه وأنه محور اهتمامها وهي جعلت له فقط، لذلك هو يسعى لإقصاء كل من ينازعه تلك الأمور كمثال وجود طفل آخر في حضن أبيه أو أمه.
هل حدث وأن سقطت يوما أو تعثرت بأي شيء ما أثناء سيرك في مكان مزدحم بالناس مما أدى بك إلى الشعور بالحرج الشديد؟ هل تخيلت الجميع وكأنهم ينظرون إليك ويتهامسون حولك؟ إنه شعور طبيعي يراود كل إنسان في مثل موقفك لأنه ببساطة يتخيل أن كل من كانوا في المكان سيلتفتون إليه ويعيرونه كل اهتمامهم ولكنه في الحقيقة لا يحدث ذلك الشيء إطلاقا لإن كل شخص منهم يحس بنفسه فقط وعنده نفس هاجس المحورية الذي لفك ويظن أن الآخرين أيضا كلهم ينظرون إليه سواءا في شكله أو حركته أو طريقة تحدثه أو أي شيء آخر يرتبط بشخصه. إن هذا المثال ليس إلا نموذجا لأحد تجليات الإحساس بالمحورية والذات عند الإنسان بالطبيعة
إن تلك العقدة التي تنتاب سلوك الإنسان في كل مراحل حياته وتمتد بعدها إلى فكره ومعتقداته ليست إلا نتيجة للجهل بالآخر وحقيقة مايمكن أن يكون عليه يغذيه في كل ذلك الإحساس بالأنا والتفرد والغلبة والإستئثار بالمحاسن (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وحينها قد يعتقد أنه بما يملك يشكل الأصل والمحور وأن الآخرين ليسوا إلا هوامش غير ذات تأثير ولايمكن مقارنة عظمة ما تملك بعظمة ما يملك، تماما كتلك النقطة الباهتة الإضاءة في كبد السماء التي لم يحسب إنسان الماضي لها حسابا واعتقد حينها أنه وبما يرى أمامه على سطح الأرض بأنه محور هذا الكون وأقصى عن منظور قناعاته أي فكرة مخالفة واتخذ تلك العقيدة مسلّمة من مسلمات لايمكن التشكيك في صحتها وخطا أحمرا لا يمكن تجاوزه وذهبت نتيجة لذلك أبحاث وعقول علماء كبار حاولوا نبش هذا القبر الوهمي وفحص محتواه، ولكن عندما تحقق وعلم ذلك الإنسان بماهية تلك الأجرام البعيدة تصاغرت أمامه معتقداته السابقة وأخذ يضع الأمور في نصابها الصحيح وتجّلت أمام ناظريه حقارة ماكان يظنه عظيما راسخا تجاه ما اكتشفه حديثا من عظمة أشياء أخرى، كمثال الجبل مقارنا بالنجم.
وهذا لعمري أكبر الأخطاء، فالحقيقة الكاملة لا يمتلكها أحد بمفرده ولا يمكن أن تحصرها جماعة واحدة ضمن إطارها وفكرها الخاص مهما امتد أنصارها أو كثر أعوانها (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) فهي موزعة بين الناس كما الرزق تماما، منهم من حظي برزق واسع ومنهم من عاش على حد الفقر، ولكنهم جميعا يحملون هم التحصيل عليه كل حسب جهده وسعيه وتوكله آخذين في عين الاعتبار إبتلاء الله سبحانه بالتضيق أو التوسعة.
وهذا هو حال المفكرين والمنظرين ومن يتبعهم من الساسة، فكل فريق يعتقد في نفسه أنه المحور وصاحب الفكر الأوحد والأصيل والقناعات الراسخة وأن الآخرين (وإن أضاءوا) فإنهم ليسوا إلا إضاءت باهتة في محيط حالك السواد وأنهم من غير ذوي التأثير لذلك فالإقصاء إزاءهم هو من قبيل المنطق ومن نهج العدالة، فالمحور هو من يرسم الدرب وهو من يحدد الهوية والإتجاه وليس على الآخرين سوى الإنصياع أوالإقصاء. فمتى ما وعى الإنسان طبيعة هذه العقدة وتعامل معها بوعي وإرادة، كان ذلك أدعى لتطور حياة ديمقراطية تقوم على احترام الأخر والإحساس باحتمالية صوابيته وبعدم جواز قمعه مهما اختلف طريقه وتباين عن الآخرين نهجه.
استجابات