نوح والحقوق الطبيعية

هل الدين يقول بقانون طبيعي يسمو فوق كل قانون وضعي؟ وهل يمكن إثبات ذلك علمياً من خلال نصّ القرآن الكريم؟

نعني بكلمة “وضعي” كل قانون (سماوي أو أرضي) وُضع مراعاة لمتغيرات زمانية ومكانية ليحكم وضعًا وجد المشرّع نفسه بإزائه (القوانين المتشابهة)؛ فإباحة المتعة، وترك تحريم شرب الخمر فترة ما، هي قوانين شرعية وضعية من “المتشابه” المرتبط بالزمان والمكان، وأحكام الظهار، والمساقاة، ودية القتل، والإرث، وموارد الزكاة، ونصابها، وسائر القوانين التي وضعت لتنظيم مجتمع ما، في زمنٍ ومكان ما، هي قوانين وضعية.

سنحاول تبيّن الجواب بعد التجوال في قصة نوح القرآنيّة، كونها سجلاّ إنسانيًا نموذجيّاً لأقدم مبعوث لمجتمع إنساني نملك مدوّنة عنه:

في خبره من سورة المؤمنين: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ. قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ..).

“يا قوم” تعني خصوص قومك ولو على نحو الأولوية، التزاماً بالنص ومخالفة ما تواتر من خاطئ زعمٍ أنّ نوحًا هو أبو البشرية الثاني، وأنها جميعا من نسل أولاده الثلاثة بعد الطوفان!

لم يكن ممكنًا حينها مخاطبة الإنسان إلا من خلال “قومه”، إذ كانت العلاقات الاجتماعية وثيقة التشابك تقوم على الروابط الأساسية، روابط الدم والمصاهرة، أو الحليف والتابع، فلا علاقة إنتاج وعمل، أو شركات ومؤسسات، ولا تجمّعات حزبية أو مجتمع مدني، ولا وطن متعدّد الأعراق، لكن المبادئ العامة لقيامة مجتمع حرّ صالح يقوم على العدالة والمساواة والحرّية هي نفسها مهما كان المجتمع بسيطا أو معقّدا.

فكان الدين -وهو يؤسّس للمجتمع الصالح- يخاطب الإنسان من خلال بعضه، فيبدأ الأنبياء بأقوامهم ليطالبوهم بحقوق غيرهم: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، عملا على ترسيخ شعور إنساني يقوم على تعزيز القيم وإخراجها من نطاقها الذاتي الضيق إلى الأفق الرحب، فكان الخطاب قوميٌّاً بالإنسانية، حتى جاء محمد (ص) فأنسن المخاطب والخطاب، فكان نداؤه “يا أيها الناس“.. خطاباً للإنسانية بالإنسانية، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).

فالدين عمل منذ البدايات على تأكيد وحدة النوع الإنساني طبيعةً وحقوقا، فكان نفع الناس أعظم خلُق في الدين، فالناس عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله، لا أعداهم وأبغاهم عليهم! والفحشاء والمنكر والبغي تجاه الناس هو أبشع ما حذّر منه الدين، ولهذا كثر لفظ “الناس” كعنوان إنساني جامع: (بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) (وأكلهم أَمْوَالِ النَّاسِ بِالباطلِ) (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وغيرها.

فالنبي يخاطب خصوص قومه، لأنّه يتعامل مع واقعه، لكن بما يؤكّد اهتمامه بنوع الناس كافة، وهذه عملية تثقيف بمعنى الإنسانية للخروج من الذاتية إلى الغيرية، وهي قاعدة لا ثبات لأيّ مفهوم إنساني بدونها.

مَن هم قوم نوح؟ هم من أصول رسالية سابقة، فخطّ الأنبياء لم ينقطع، وهؤلاء القوم لم يتوقّفوا عند ما انتهى إليه رسلهم السابقون، بل قد تطرّفوا وطغوا على الناس، ولكأنّ الرسل ما جاءت واجتهدت إلا لتنصبّهم طُغاةً على أقدار الناس، فبُعث نوح (ع) لإرجاعهم عن طغيانهم وظلمهم الناس، كما المسيح (ع) وظهوره في المجتمع اليهودي تماماً.

نادى نوح: يا قوم؛ فاجتمعوا له وتنادوا، ولكن هذا النابت من رحم القبيلة كان له خطابٌ آخر، إنه لا يستغيث فيُغاث، بل يحذّرهم من الطغيان على الغير: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟)

“اعْبُدُوا اللَّهَ” لا تعني أعمال العبادة وشعائرها، وإلا لما اكترث سادةُ الإقطاع وحاربوه!

“فعبادة الله” هنا دعوةٌ لنبذ العبوديات الطغيانية الزائفة، والتي قد تكون لبست الكثير من الشعائر والمظاهر لكن دون مضمون حقّ وعوائد تقوى، دعوةٌ لعبودية حقّة تحرّرهم استنقاذا للكرامة من عبودية الطغيان والعدوان (أكانت عبودية: سادات، عادات، مطامع، مخاوف، ذوات، أهواء، متقنّعة بمظهر دين قشري)، تلك التي لبست حينها الشرك وتعدّد الآلهة مظهراً نفعيّاً وغطاءً عقائديّاً زائفاً، ثمّ في مراحل تاريخية لاحقة تلبّست اليهودية، ثمّ المسيحية، ثمّ الإسلام، ثمّ مذاهبه، لبسَ الفرو مقلوباً، لذلك كان إعادة موضعة “الله” الإله الحقيقي، القويّ العزيز، والخضوع له وحده، إلى قلب الإنسان، أمراً كفيلاً بتحريره من الدجل الاعتقادي، والخداع الثقافي والشعائري، والغرور الديني، والانحراف السلوكي، والخوف من الطواغيت البشريّة، لأنّه يُعيد منطق العقل المسلوب ويُرمّم الضمير، الصانعيْن للتقوى مع الآخر فتُصان الإنسانية..

هذا الأمر لا يروق لقوى الإقطاع، فالإله أو الآلهة المصنوعة مُوظَّفةٌ لمصالحهم ومسيطَرٌ عليها، فاصطنعت الإله للتحكّم في الدين للهيمنة، ويكون لها الكبرياء في الأرض، فمن ملك الدين ملك التحكّم في الناس ما لم يكن من المتّقين فسيجعل الدين كلّه لله لا له ولحاشيته.

هكذا فهم الكبراء الخطاب التحرّري الجديد، إنه يدعوهم لترك الجبروت والعلوّ على الناس وتضليلهم، بالعودة لما كان عليه أسلافهم من الصلاح ومظاهر التوحيد العمليّ، ولكن التوحيد يقتضي المساواة، والمساواة تعني تكافؤ الفرص (العدالة)، ومن هنا أصبح الدين بعد تحريفه أداة استبداد وتقييد، ولا يلام الدين على ما ليس منه، بل اللّوم على الكهنة ورجال الدين الذين حرّفوه عن مواضعه خدمة لمصالحهم وللمستبدّين.

“أفلا تتقون؟” سؤال يحمل الطلب: اتقوا الله، ولكن في ماذا؟ اتقوا الله في أنفسكم أن تهلكوها بالطغيان، اتقوا الله في الناس أن تطغوا عليهم بالظلم، وعودوا صالحين، تمهيدًا لصناعة مجتمع جديد يقوم على حفظ الكرامة بالعدالة والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، لقد كان قوم نوح مُفرطين في الظلم والطغيان: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى)!

أعلن الكبراء من واقع هواجسهم: (مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) فهو إذًا يريد أن يتفضّل عليكم، ليكون مقدّسا يُطاع، سيّدًا بدل السادة، إنّها الدعوى نفسها (كلما بدت بشائر تحطيم سطوة وسلطان الإقطاع، أو تقليص النفوذ والهيمنة على الناس).

لا يترك المستكبرون وأبواقهم الإعلامية ورجال الدين المزيّفون فرصةً لعقل الناس كي تنظر وتتفكّر لتحكم، فبادروهم أوّلا بالتشكيك في نوايا المصلح وأنها نفعيّة لا قيميّة، إنه مجرد مدّع يطلب الجاه لا الإصلاح، وثانيا بادّعاء التواتر ليبرهنوا صحّة ما هم عليه (آبائنا الأولين)! فالدين الصحيح هو ما يُتوارَث جيلاً بعد جيل! وما يزال هذا المنطق يثار أمام كلّ مصلح ومجدّد.

ومنطق الأنبياء يقوم على ضرورة الإصلاح والتجديد، وأنّ “المتشابه” ظرفيّ، بعضه لا يحتمل البقاء أكثر من قرْنٍ على أبعد تقدير (إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدّد لها دينها)، ولكن أهل الزيغ يريدون مصادرة “المحكم” من القوانين التشريعية والطبيعية “بالمتشابه” منها، أصحاب المصالح بطبيعة الحال تقاوم عجلة التغيير بشتى الوسائل، وخلال قرن ثبتت مصالح قوم على ما أفسد مِن الحقّ فهم لا يريدون تغييراً، فما بالك وقد مرّت قرون؟

ومنطق أهل الزيغ هو كيل التهم والمكر، فاتّهموه بالجنون: (إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)، فإنْ فاق من جنونه وترك دعواه، وإلا فيقضي الموت عليه وعلى دعواه.

وصبر، لكنهم لم يصبروا، فمكروا به مكرًا، ثم مكرًا (كُبَّارا)، فما هو هذا المكر الذي لم يصف سبحانه وتعالى مكراً أصاب نبيّاً كما هذا؟ إنّهم أسكروه غدرًا، لا أنه زرع كرْماً وصنع خمرًا فشرب منه كما في القصّة التوراتيّة المحرّفة، فحاشاه يفعل، إذ قصة التوراة شائنة، وُضِعت لغرض، ورُكبّت على حدثٍ سبق الطوفان، ثم وظفت عنصريًّا ضدّ ذوي البشرة السود وأنهم عبيدٌ للعرق “السامي” بقانون الله جرّاء خطيئة “حام” المزعومة لإسكار أبيه، “حام” الذي جعلوا كلّ الجنس الأسود نسله! وجعلوا أنفسهم مِن نسل “سام”!

فمكروا بنوح وسقوه الخمر غدرًا من حيث لا يعلم، ليسقطوا اعتباره، ويكذبوا أهليته للدعوى، ولا ننسى أنّ زوجته خائنة له مع عدوّه وكذلك ابنٌ له، وما أقدر أحدهما على فعل ذلك وهو مطمئن من ناحيتهما.

إلاّ أنّ الأدهى، هو إفساد الماكرين طرق المعرفة الإنسانية برمّتها، بمنع العقل من التفكير الحرّ المستقل، وأسر العقل بالنقل (مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)، فدائما تقف دعوى اتّباع الأثر لوأد العقل أن يُمارس مهمته الطبيعية، ليفكر تفكيرا حرّا، باحثاً عن الحق الصالح له، بحسب زمانه ومكانه، فيغير من “متشابهات” السلف إلى “متشابهات” الخلف، ضمن محكمات الطبيعة والدين.

(قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ)؛ هل تاقت نفس نوح للانتقام؟ هل يريد هلاكهم؟ فهم مستحقّونه لفرط طغيانهم وظلمهم، ولِما علم مِن الله أنه لن يؤمن أحدٌ منهم بعدُ؟[1]

فما جدوى بقائهم وهم لن يكونوا إلا منبعًا للإفساد؟[2]

ولكن أيليق أن يُظنّ أنّ اهتمام نوح بفناء كفّار قومه أكثر من اهتمامه بانتصار دعوته؟ فالحقّ، هو إنّما دعا ربّه أنْ ينصر دعوته التي كذّبوها، فقد نفدت وسائله، وقلَّت حيلته، ويعلم أنّ وسائل الربّ لا تنتهي.

فطلبه زوالهم عن أرض الرسالات[3] وعن كاهل الناس، هو غرض لغرض؛ أن ينتصر الحقّ ويعمّ السلام وحياة الكرامة بإزاحة عقبتهم.

ما أعظم عزم نوح! فهذه الدعوة التي ظلّ قومه يكذّبونها دهراً، لا تزال تملك عليه وجوده، ويتمنى لو تتاح له فرصة جديدة ليري قومُه جمالها، وليرى مجتمعًا جديدا خالياً من المستكبرين المعاندين، قطّاع الطرق، مطفئي النور، فطلب النصر ليرى مشروعه الإنسانيّ النور.

ولكن ما أغرب الاستجابة! يا نوح استجيب دعاؤك فأسّس واقعه؛ اصنع سفينةً بالمواصفات القادرة على النجاة من طوفان عظيم سيجتاح قومك! لا يُوجد حلّ من خارج الطبيعة، الله سبحانه وتعالى لا يغيّر القوانين الكونية من أجل دعاء مؤمن، بل يفترض على المؤمن أن يتعلّم كيف يدعو ليستجاب له، فدعاء النصر يتطلب علم أسباب النصر حتى يتحقّق.

هذا قانون من محكمات الطبيعة، يعضده قانون من محكمات الدين، إذا دعوت فأسّس لواقع دعائك، فإن كان دعاؤك بالنصر، فاتخذ وسائل النصر المناسبة، وإن دعوت بالرزق فبالوسائل التي تفتح الرزق، والصحة بوسائلها، وهكذا…لا وجود في قوانين الدين لما يخالف قوانين الكون والطبيعة.

وهكذا اكتملت لنوح عناصر النصر: عزيمة راسخة بإيمان ثابت، وخطة مناسبة للمشكلة المتوقعة، كلما احتاجه من هدى الله أنه أخبره بنوعية العذاب ودلّه على نوعية الحل، هكذا يستجيب الله بالهدى والدلالة والتوفيق، ولكن على الإنسان أن يعمل.

آمال المؤمنين معقودة على حتمية انتصار الحق، وهم يدعون بالتغيير وتحقيق الآمال، ورغم صحة ما يؤمّلون، إلا أنهم لن يكونوا المحقّقين لهذا الحلم مادام دينهم منفصلاً عن عقولهم التي أسلموها للغير واكتفوا بالتقليد والجمود، فالحقّ ما لم يكن مقترناً بالعقل، أضاع الإنسان طريقه إليهما معاً، لأنّ الشرّ حاضرٌ فينا دائما، وهو على استعداد دائم لخداعنا عن الحق، بعناوين براقة مخادعة، كمن يدعو للإباحة بعنوان الحرية! والاستبداد بعنوان الإيمان، ألا ترى قوم نوح أنهم كانوا من ذرية قوم صالحين؟ ألا ترى كيف أنّ الصهيونية تُقدّس موسى؟! والصليبيّون عاثوا الفساد باسم مريم والمسيح؟!

“وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ”:

هل مِن منزل بعد الطوفان؟ (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فهل انتهت القضية بالطوفان أم أنّها بدأت للتو؟ وبأشدّ صعوبة من الأولى، فلا منازل ولا أعمال ولا ترفيه ولا تقنية ولا معايش ولا شيء، لا شيء بالمرّة سوى صدى أوجاع الكارثة، هل لا تزال قوانين ما قبل الكارثة صالحة لما بعدها؟ أم أننا بحاجة لقوانين جديدة تواكب الزمن الجديد واستحقاقاته؟

لا يعيش الناس بلا أشيائهم، فلابد للناس من ممارسة يومياتهم: أن تأكل وتشرب وتسكن وتتزوج وتتناسل وتعمل وتتسلّى أيضاً، وهنا لا شيء من هذا قد تهيّأت أسبابه، فهل سيكون إيمان أتباعه كافيا لمواجهة ما بعد الكارثة؟ كلا، ونوح يعلم أنه الآن لابدّ أن يعمل على وصولهم لدرجة اليقين، فالإيمان السابق لم يعد كافيا لتحمّل الظروف الجديدة، ومن هنا بدأ نوح يواجه مشاكل من نوع آخر، فهذه هي قوانين الطبيعة، وعليه أن يواجهها بحلول نورانية جديدة، إخوة السفينة بالأمس قد تحوّلهم الظروف الجديدة إلى أعداء أو متنافسين، لقد انتهت قصة وبدأت فصول أخرى.

وتستمر الحياة في التغير، نزلوا والإيمان يعمر قلوب المؤمنين، ومنهم مَن لامس برد اليقين ورأى صدق إنباء نوح بوعد ربّه، فمضت سنون من السعادة والإخاء، ونشأ مجتمع جديد، ولكنّ بعضهم نزلوا والشرّ كامن في طبيعتهم، ينتظر الفرصة المناسبة لينمو، ثم نما، وهكذا كان:(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ختاماً، بعد إبحارنا في خارطة القصّة القرآنية لنوح، نُعيد السؤال الأوّل: هل نستطيع تقرير أنّ الدين يُنادي بقانون إنساني طبيعي يسمو على كلّ قانون وتشريع ولو نصّت عليه السماء يومًا ما أو تواتر؟

قانون إنساني يتوخّى مُثلاً عليا فوق الشريعة والقانون، بها كرامة الإنسان، وصيانة حريته، وتأكيد مساواته، ليُدلّل أنّ كرامة أيّ إنسان هي فوق موقفه الاعتقادي، فضلاً عن نوعه القومي والعرقي والطبقي!

القرآن كدستور للدين، ضَمِن دون لبسٍ هذه “الكرامة” بما تعنيه مِن احترام وعدالة وحرية وأمن للمشرك والمجوسي والنصراني واليهودي، ليُرسي قواعد التعايش والتعاون بين أفراد المجتمع، وحرّم العدوان بل وأوجب الدفاع لسلامة دور عبادة مختلف الأديان واحترامها، ثمّ جاء مَن مسخوا تعاليم الدين وصيّروه عدوانًا على المختلف، واخترعوا قوانين واجتهادات تُكفّر وتنجّس وتستبيح وتُهين وتُغيّب وتدوس “الكرامة الإنسانية” التي قانونها فوق أيّ تشريع.

والأنبياء كمؤسّسين للدين حاربوا أقوامهم مع كونهم “قومهم” وعلى “دين”، لا لبطلان عقائدهم، بل لتعدّيهم على “كرامة الإنسان”، أي انتهاكهم للقانون الإنساني.

وإنّ الدعوة للتغيير الاجتماعي بقوانين عادلة في جهاد الأنبياء إنّما كانت لبناء نظامٍ اجتماعي يستعيد فيه الفرد “وجوده الإنساني الكريم”، أيْ تحقيق ذاته وفق مواهبه لحياة كريمة، غير ذليلة، ولا مستعبدة ومستباحة، ولا ممسوخة عن خلقتها، بتشريعات طاغية وزائفة.

“الكرامة الإنسانية” يتم استباحتها حين يتمّ السطو على عقول الناس وتضليلها، وسحق ضمائرها، وتبديل قيمها، لتسخيرها حيوانيا، وإلهائها بغرائزها، وتهديد “حقوقها الطبيعية” لتبقى لاهثةً أو متعاديةً، ولتديم بنفسها نُظُم استعبادها، وقد يُصطنع لها “دين” زائف و”تشريعات” مُضلّلة لإمعان تخديرها باسم الله عن سبيل “كرامة” وجودها، ولأنّ (القانون الإنساني) بحقّ الكرامة والعدل هو فوق كلّ دين، يبعث الله برحمته الأنبياء والمصلحين والمجدّدين كمحرّرين مِن هكذا نُظم وأديان تمارس قطع الطريق باسمه، وتمحق الحقوق الفطرية، وليُذكّروا الناس بكرامتهم السليبة وبزيف القوانين التي تخالف القانون الإنساني الطبيعي الذي يعرفه كلّ وجدان.

فنوحٌ كافح من أجل “الكرامة” المغيّبة، بالدعوة إلى العقيدة الحقّة التي تستنقذ كرامتهم مِن براثن الطغيان..

وحين دعا بهلاك المجرمين -بعد يأسه من صلاحهم- دعا لأجل استعادة حقّ المستضعفين واستنقاذ أجيال المستقبل أن تُولد مُسوخاً للمجهول، مجهضةَ الكرامة الإنسانية ودون إحساس بها بالمرّة (إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفّارا).

وحين أمخرت السفينة أركب معه كلّ إنسان يرجو النجاة إيجاباً “لكرامته” وحقّه في النجاة (فإذا استويت أنت ومَن معك على الفلك)، مهما كان مؤمنًا بربّ أو غير مؤمن، ليؤكّد زيف وضلالة كلّ تشريع لا يبيح إعطاء حقّ إنسان لشركه أو كفره، ولا احترام كرامة نفسه وماله وعرضه، فالله كرّم جنس الإنسان وحفظ حقّ وجوده كإنسان وحمله في البرّ والبحر، كما فعل نوح (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر)..

وحين رسا نوحٌ فإنّما ليُقيم قوانين مجتمع “السلام والبركات” للإنسان المؤمن وغير المؤمن: (اهبط بسلام عليك وعلى أممٍ ممن معك)..

فبؤرة الصراع القائمة منذ القدم، ومحور الرسالات السماوية، هو تأكيد “قيمة الإنسان وكرامته”، ورسم شئون حياته على الأرض وفق هذه الثابتة، بتحريره من الظلم: بأنْ لا يَظلم ولا يقبل الظلم، وإعطائه حقوقه العقلية والعلميّة وذلك بتوجيهه لخالقه الحقيقي المُعلِّم الأكرم، ليحظى بالكرامة وينجو من استعباد وافتراس الطُغَم البشرية، سلطوية ودينية، وشرائعها وقوانينها المزيّفة!

فلننظر اليوم للقوانين السائدة والشرائع الدينية، أهي إنسانية السمة؛ تقول بعالميّة كرامة الإنسان وبحقوقٍ فطريةٍ له، وبمساواة كونيّة للجميع، أمْ أنّها نفسُها التي كافح نوحٌ وأنبياءُ الله لتغييرها؟! (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)..

  1. (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
  2. (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً).
  3. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *