هل تكون العراق صومال أخرى؟؟

قاد محمّد سياد بري سنة 1964 انقلاباً عسكرياً في الصومال، وتبنى النظام الشيوعي فنال مساعدات سخيّة من الاتحاد السوفيتي، واتبع سياسة القمع والتنكيل ضد معارضيه وبالأخص الإسلاميين فكان يحرق من يتصدى لقراراته بالنّار علناً، حدث هذا مرة على الأقل عندما أحرق أحد عشر عالماً في ساحة عامّة في مقديشو، كانت لمحمّد سياد بري طموحات إقليميّة في إثيوبيا، فاستفاد من علاقاته مع الاتحاد السوفيتي في تسليح الجيش الصومالي أملاً في استرجاع أراض من كينيا وإقليم الأوقادين من إثيوبيا فأوقادين أرض صوماليّة ضمت إلى إثيوبيا كما يقول، ولكن حدث ما ليس في حسبانه وجرت الرياح خلاف ما يشتهي ويتمنى؛ إذ وقع انقلاب عسكري في إثيوبيا سنة 1974 ضدّ الإمبراطور هيلاسيلاسي بقيادة منجستو هيلاماريام الذي تبنى الشيوعية أيضاً، واستطاع أن يوثق علاقاته مع الاتحاد السوفيتي أكثر من الصومال ووجد الاتحاد السوفيتي النظام الجديد في إثيوبيا أقدر على ضمان مصالحه من نظام سياد بري فألقى بثقله معه بعد أن فشل في الجمع بين ” الضرتين “. أزعج هذا الانحياز السوفيتي سياد بري كثيراً فانحاز بالكامل تجاه الولايات المتحدة الأمريكيّة وقلب نظامه من شيوعي اشتراكي إلى نظام رأسمالي أملاً في استمالة الغرب لدعم طموحه في استرجاع إقليم أوقادين ولكن دون جدوى. وفي سنة 1977 شنّ الحرب واحتل الجيش الصومالي أجزاء كبيرة من إثيوبيا حتى وصل إلى مناطق في العمق الإثيوبي في هرر وبالي، فأقام الاتحاد السوفيتي جسراً جوياً إلى إثيوبيا ودعمها دعماً غير محدود، كما تدفقت على إثيوبيا قوات كوبية دربت وشاركت في الحرب ضدّ الصومال، أمّا الولايات المتحدة والدول الغربية فقد عارضت بشدة أي تغيير في الحدود بين البلدين، فاضطر الصومال نتيجة للضغوط الأمريكيّة والدوليّة والدعم السوفيتي اللامحدود إلى إثيوبيا إلى الانسحاب مما أحدث نكسة نفسية للجيش الصومالي الذي حرم من النصر المؤكد. وبعد الحرب حدث انهيار اقتصادي واجتماعي في الصومال وفرّ أكثر من 60000 صومالي من بلادهم إلى إثيوبيا للنجاة بحياتهم خوفاً من بطش سياد بري. ولجأت قبائل على أسس عرقيّة وبالأخص في وسط وشمال الصومال إلى إثيوبيا إلى منجستو هيلاماريام الذي كان عدواً لدوداً للصومال؛ طالبين عونه في الخلاص من حكم محمّد سياد بري، فساعدها بغية تفتيت وحدة الصومال فنشبت بسبب ذلك حروب داخلية بين الجيش النظامي وقوات هذه القبائل المدعومة من إثيوبيا انتهت بسقوطه عام 1991م بعد حرب دموية مع مجاعة أودت بالكثير من الأرواح. وبسقوطه دخلت البلاد في حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس لا زالت مستمرة إلى اليوم.

والعراق في سنة 1980 شنّ حرباً ضروساً على إيران لاسترجاع ما فقده من حقوق في شط العرب كما يدعي بعد اتفاقية الجزائر 1975 التي وقعها صدام بنفسه مع الشاه، وتلقى صدام دعماً غير محدود من الدول الإقليميّة ومن كلا المعسكرين الشرقي والغربي ولكنّه فشل في إلحاق الهزيمة بإيران، ولمّا توقفت الحرب غزا الكويت سنة 1991 ليعيد بناء اقتصاده الذي أنهكته الحرب، ولكنّ العالم بأجمعه وقف ضده وشنت عليه قوى التحالف الحرب سنة 1992 وأخرجته من الكويت، ولم تتدخل لوقف قمعه للانتفاضة الشعبية في الشمال والجنوب في أوّل الأمر ممّا مكنه من تصفيتها بشكل وحشي، ولكنّها أبقته تحت الحصار حتى أسقطته في 9 أبريل 2003 بدعم من المعارضة العراقيّة أو على الأقل برغبة ورضا منها.

فكلا البلدين ابتليا بحاكم دكتاتوري مغامر فانتهت به مغامرته إلى الفشل ومن ثمّ انتهج القمع اللامحدود لاجتثاث أيّ تحرك شعبي، فاضطر الشعبان للاستعانة بالأجنبي الذي كان يوماً ما عدواً أملاً في الخلاص من طاغيته. فالظروف إذن متشابهة أفضت في الصومال إلى حرب أهليّة لازال أوارها محتدماً حتّى الآن، فهل ستجري السنة على العراق ليدخل في حرب أهليّة؟ هذا ما يبدو في الأفق تماماً للأسباب الآتية:

  1. أنّ أمريكا بدأت تؤلمها الجراح بعد أن أصبحت الهجمات ضدّ قواتها يوميّة، وبعد أن اشتدت حمّى الانتقادات الداخلية للحرب في الكونجرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني، وهاهي أمريكا تستعد لتغيير إدارتها في العراق للمرة الثانية، وباتت الآن مستعدة أن تعطي لخصوم الأمس ما أرادت أن تستحوذ عليه، فهي الآن تطالب بإلحاح بإرسال قوات دوليّة وبعثت برسائل لأكثر من ثمانين دولة بما فيها فرنسا وألمانيا، فكان ردّ فرنسا وألمانيا أن القوات التي ترسل إلى العراق يجب أن تكون ضمن مظلة الأمم المتحدة. ولو قدمت قوات دوليّة واستمرت المقاومة هل ستنجح هذه القوات فيما فشلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو نجاحها في هذه المهمة العسيرة بعيد جداً لأنّ لها تجارب سابقة في الفشل في البوسنة والصومال ولبنان وأفغانستان من قبل.
  2. النظام السابق في العراق انسحب من السلطة عسكرياً أو بعبارة أخرى أخلى الساحة للقوات الغازية ليعيد تنظيم صفوفه، فاحتفظ بمقدار معقول من قوته العسكريّة والتنظيميّة، فتنظيمه الحزبي المتمثل في حزب البعث لا زال قائماً، ولم نسمع عن حدوث انشقاق أو تخلٍ عن الحزب كما حدث مثلاً في روسيا وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي بعد سقوطه؛ إذ مزق الملايين بطاقات الانتماء إلى الحزب الشيوعي بل ساهم عدد كبير من القادة الشيوعيون في إسقاط النظام الشيوعي مثل يلتسن في روسيا وشفر نازا في جورجيا التي أنجبت جوزيف ستالين، والجيوش العراقية لا زالت أقساماً منها متماسكةً، كما أنّ الضائقة الاقتصادية تزيد من دعم أفردها للنظام السابق، واستعدادهم لشن عمليات ضدّ القوات الأمريكيّة التي حلت الجيوش وأجهزة المخابرات والحزب وحرمتهم من رواتبهم الشهرية دون أن تقدم لهم رواتب بديلة، وها هو صدام يصدر بيانات إلى قواته وأفراد حزبه يدعوهم للمقاومة لاسترداد ما فات ويعينه على المقاومة الأموال الطائلة والسلاح الكثير الذي بحوزته والخبرة التنظيميّة والقتالية لجيشه والإقدام والمغامرة الذي تميز به.
  3. الأكراد، فطموحاتهم الانفصالية بيّنة لا يمنعهم من الإفصاح عنها إلا الظروف الإقليميّة والدوليّة، فهم عندما يقبلون بفدرالية عراقيّة يريدون كركوك الغنيّة بالنفط ضمن منطقة حكمهم الذاتي وهذا الإصرار يخلق مشكلة عرقيّة عراقية إذ أنّ الكثير من سكان كركوك عرباً ومن قوميات أخرى غير كرديّة، كما يخلق مشاكل مع الجار التركي الذي يراقب الموقف عن كثب، وينتهز الفرصة للسيطرة على الموصل التي يعتبرها جزءا من أراضيه، وشاهدنا الهياج التركي عندما أدخل الأكراد قواتهم إلى كركوك، ولم تهدأ ثائرتهم حتّى تحركت أمريكا بجديّة وأقنعت الأكراد بالانسحاب فوراً قبل أن يتسبب ذلك في مواجهة كردية تركيّة. فكركوك إذن قد تفجر حرباً بين العرب والأكراد من جهة وبين الأتراك والأكراد من جهة أخرى ومن المؤكد أن تركيا ستدعم الطرف العربي الذي يعارض ضمّ كركوك إلى مناطق الأكراد في حال الانفصال أو الحكم الذاتي، وهذا ما يؤكده الدخول التركي العسكري والاستخباراتي في بعض مناطق الشمال والذي كشفه اعتقال القوات الأمريكيّة لعدد من رجال الاستخبارات التركيّة جاءوا لتنفيذ عملية اغتيال بحق أحد الأكراد.
  4. السنّة، لن يسمحوا بخسارة موقعهم السياسي والاقتصادي الذي تعودوا عليه من أيام العثمانيين وعبر الحكومات الملكيّة والجمهوريّة التي تتابعت على العراق، وسيلقون دعماً غير محدود من دول الجوار التي لا ترغب في رؤية نظام يشكل فيه الشيعة أغلبية، كانت هذه المخاوف هي التي أبقت على صدام بعد إخراجه من الكويت، ونلاحظ بعض الدول الخليجيّة ممن آوت عددا من المعارضين السنّة تدفعهم اليوم للعب دور أساسي في مستقبل العراق، كما أن عدداً من القنوات الفضائية تقوم بإذكاء مخاوف النفوذ الشيعي في الحكم المستقبلي في العراق، وممّا يزيد المسألة تعقيداً أنّ عناصر النظام السابق الذين يأسوا من الفرار إلى خارج العراق احتموا بقبائلهم خوفاً من انتقام النّاس لدعمهم للنظام السابق، وهم على استعداد أن يركبوا الطائفية والقبلية لاستعادة مجدهم الغابر ولتأمين سلامتهم الشخصية من القصاص، ولاحظنا ردود الأفعال العنيفة من قبل السنة على تشكيل المجلس المحلي، وعلى قراره بتشكيل محكمة لمحاكمة من ارتكب جرائم بحقّ الشعب العراقي، فقال بعضهم هم يريدون معاقبة ربع سكان العراق.
  5. منظمة ” القاعدة ” لا شك أنّها ستدخل على الخط، فنشاطها في أوربا وأمريكا والعالم أصبح مكلفاً وصعباً للغاية بعد أن صار مكشوفاً؛ فالعالم كلّه حرباً عليها، والرأس الأمريكي الذي تطلبه وقطعت البحار والقفار للوصول إليه هو على مرمى حجر منها، فمصلحتها ووضعها الحالي والانفلات الأمني في العراق وتوفر السلاح والبيئة التي تحتضن مقاتليها كلّ ذلك يحفزها على اتخاذ العراق قاعدة و منطلقاً لعمليات ضدّ القوات الأمريكيّة والبريطانيّة والمتحالفين معهما حالياً والقوات الدوليّة فيما لو قدمت إلى العراق مستقبلاً.
  6. أمّا الشيعة فقد فقدوا باستشهاد السيّد محمّد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية شخصيّة عظيمة حملت هموم شعب العراق، مسلمين ومسيحيين، عرباً وأكراداً وتركمان، سنة وشيعة، لقد عمل السيّد الشهيد طوال عمره من أجل رأب الصدع الداخلي في صفوف الشيعة بعد أن فرقتهم الأحزاب والانتماءات يميناً وشمالاً، وعمل على جمع المسلمين على كلمة سواء عبر عمله الدؤوب في المجلس الأعلى للمجمع العالمي بين المذاهب الإسلامية، والوقوف بكل قوة مع معاناة الشعب الكردي أيام العهد البائد، وعبر مطالبته بإعطاء المسيحيين حقوقهم المشروعة. لقد كان خطابه على الدوام توحيدياً، ولقد طمأن الجميع بأنّ العراق القادم لن يكون لفئة دون فئة، ولن تكون فيه السيطرة لفئة على الفئات الأخرى، فقد علمته السنون والتجارب أن يكون في أطروحاته ومعالجاته للمشاكل المحليّة والإقليميّة والدوليّة واقعياً، لقد كان شخصيّة متميزة جمعت بين الاجتهاد والسياسة، والعلم والجهاد، والصبر والعمل، والرأفة والقوة بالإضافة إلى النسب الشريف والعائلة المجاهدة التي قدّمت أكثر من خمسة وثلاثين شهيداً ممّا جعله شخصية فريدة لذا فسيترك فقده صدعاً ليس من السهل جبره، وفراغاً ليس من السهل ملؤه، خصوصاً في هذا الظرف العصيب، حيث العراق خاضع للاحتلال، وحيث تتنافس الدّول الكبرى على أن يكون لها دور في تقرير مصيره.
  7. الثأر، لم يسلم من النظام السابق أحد حتى أبناء أعمام صدام وزوجي بناته وأهل تكريت وسامراء والمناطق السنيّة عامّة، أما الأكراد والشيعة فقد طفح الكيل بهم، والمقابر الجماعية تتكشف يوماً بعد يوم، والوثائق العراقيّة التي وقعت في أيدي النّاس تبرز الجرائم التي ارتكبها النظام في حقّ النّاس وتدل على أسماء المخبرين ورجال المخابرات والأمن وفرق الإعدام وفدائيي صدام، فكلّ صاحب ثأر عرف ثأره عند من، ووجد الآن الفرصة مواتية، فكل صاحب ثأر حريص على الأخذ بثأره قبل أن يفلت المجرم بجلده، وتتناقل وكالات الأنباء اليوم عمليات ثأر يوميّة بحق أو بدون حق.
  8. النظام العشائري في العراق، العشيرة تضعف إذا قوي النظام وتقوى إذا ضعف النظام، فإزاء تفتت العراق الطائفي والعرقي والسياسي والدمار الاقتصادي بعد ثلاث حروب خارجيّة وثلاث حروب داخلية من المؤكد أن يقوى سلطان العشيرة. وبذلك تدخل العشائريّة بحمقها وعصبيتها وجهلها وحدّة مزاجها وعمى الرؤية عندها على خط الصراع، تدخل كطرف مباشر في صناعة الأحداث تجلى اليوم في عشائر الفلوجة والرمادي وغيرهما، وقد يتجلى أيضاً عندما تحمي القبائل الفارين من أبنائها وتمدّ أطراف النزاع بالرجال والمال فتكون القبيلة بذلك وقود حرب وآلة دمار.

إذن بعد اجتماع عناصر الفتنة بدت نذر الحرب الأهليّة في العراق واضحة للعيان.

استجابات