ويسألونك عن الله.. أهو ذكَر؟!

إنّ المُطالع لكتب السماء، بل لوصايا الأديان أين كانت، يرى بجلاء أنّ بطلها ومحورها ومخاطَبها الرجلُ بلا منازع، ولا تأخذ المرأة إلاّ دوراً ثانويا تابعيّاً ضيّقاً في بنية العقيدة وخطابها الديني، لدرجة أنّا لا نجد عالمةً مفسِّرةً لنصوص الوحي وكأنّه لا يعنيها، فلا تفسيرَ تاريخيّاً لامرأة مثلاً للقرآن الكريم أو غيره، مع وجود ونبوغ مئات الرجال المفسّرين[1]، فكأنّها أُبعدت عن ملامسة نصوص السماء التي فُرض لمماسّها طهارةٌ وتقوىً وفطنةً استثنائيّة احتكرها الرجل دائماً، ولم تُعطَ المرأة دوراً في ملحمة التطوّر المعرفي، لدرجة قيل أنّ الصحابيات اشتكين تحيّز الوحي وعدم وجود ذكرهنّ (فممّا أخرجه الترمذي والحاكم عن أمّ سلمة أنّها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء! فأنزل الله “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى..الخ، وأخرج الحاكم عنها أيضاً قالت: قلت يا رسول الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء؟! فأُنزلت “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..الخ”)، فالإشكاليّة قديمة قدم النصّ المُوحى، وإذا كان هذا حالها في خطاب الوحي الإسلامي، فإنّها في الإنجيل والتوراة تكاد تكون معدومة الذكر كمُخاطَب بل مجرّد ضمير غائب وصامت.

إنّ إثارة الإشكال -وبنحوٍ تشكيكيّ- أنّ القرآن ذو نزعة ذكوريّة في مجمله –مع كونه صحيحاً- هي شبهةٌ ربّما بدأ ترويجها المستشرقون، ثم كرّرتها ونفختها التوجّهات النسويّة التحرّرية الممثّلة لبعض أنساق الاتّجاهات الليبرالية، برز هذا الاتّجاه ببُناه الفلسفيّه بشدّة في أمريكا وفي المعسكر الشيوعي، ومع ذلك فالفكرةُ ذات منطقٍ إشكاليّ مشروع، لكن إجابته ستغدو خطيرة، حيث أجاب الدينيّون المهووسون بتفوّق الرجل وبأنّه القيّم والقَوّام على المرأة في المرافق كلّها، وأنه المتربّع على قمّة هرم الخليقة والتطوّر، منه اختار الله رسلاً لخطابه، ومنه صدر أوّل مخلوق إنسانيّ (فتقول التفاسير: “اصطفى “آدم”؛ خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيء، وأسكنه الجنّة”)، والمرأة فرعٌ منه، ومن ضلعه الأعوج… وأنّها قاصرة وكانت سبب معصية آدم وبالتالي خروج الجنس البشري من الجنّة، (طبعاً هذه تجنّيات وتلبيسات رجاليّة نقضناها بقراءة نصّوص القرآن بالحقّ كما نزلت، في بحوث تفصيليّة كاملة)[2]!

إذن، هم أجابوا بأمر مقدّمتهم قد صرّحت به، بأنّ القرآن فعلاً موجّهٌ للجنس الأفضل، والأعلى، والأعقل، والأولى بالريادة وبالقيادة وبإناطة التربية، وبشرف حمل الرسالة، والمرأة هي مفعولٌ وتابعٌ ومتلقي عن الرجل، والرجل هو المستحقّ بالتلقي عن الله جلّ ذكرُه!

فالحركات النسوية ذات المرجعيّة الليبراليّة التي تنادي بالمساواة التامّة، وبأنّ النساء شقائق الرجال، تستهجن هذا الخطاب الذكوري الاستعلائيّ الاستبداديّ، بقوانينه وإلزاماته الذكورية، وتُنكر تضمينه النصّ القرآني، لأنه يُموضع المرأة دون الرجل تشريفًا وتكليفًا، ويجعل الحياة وكأنّها مصمّمة لعالَم الذكور (man’s world)، حتّى أنّ الأديبة المصرية نوال السعداوي تحذّر منه كونه يدفع لتأسيس نظام طبقيّ ذكوريّ يُشكّل الرجل قمّته وعموده الفقري والمرأة ضحيّته ومستعبدته، بل يُقال أنّ إحدى المهووسات بأنسنة الخطاب الديني وبنسويّة الفكرة قرأت “قل هي الله أحد”، بتغيير الضمير “هو” لله –سبحانه- الذي ينبغي بحسبها أن يكون مؤنّثاً! (طبعاً هذا سفهٌ عقليّ فالأنوثة والذكورة لا تحكمان عوالم الملائكة، فكيف بالخالق جلّ عن الشبَه والمثيل؟!).

وردّت الحركة الرجالية (الفقهية منها بالخصوص) بأنّ هذا صنع الله واختياره ولا ينبغي الاعتراض على قضائه، الله فضّل الرجل لحكمة خاصّة ومهمّة محدّدة “بما فضّل اللهُ بعضَهم على بعضٍ” (تفسير “بعض” الأولى للرجال، ومدلول “بعض” الثانية للنساء.. بحسبهم، وهو أمرٌ نسفناه ببحوث سابقة)، وأناط بالرجال مسئوليات لا تقوى عليها النساء، فلذلك كان الخطاب للرجل! هذا فحوى ما يقال عادةً.

بداية ينبغي التنبّه، أنّنا لسنا بصدد مناقشة ذكوريّة الأحكام وإن كان في بعضها إجحافٌ أو تمييزٌ ظاهرٌ (أو بحسب الظاهر) بحقّ المرأة؛ كالمسائل الشهيرة محلّ النزاع مِن إرثٍ وولايةٍ وشهادةٍ وقوامةٍ وعصمةٍ وغيرها، فهذه أمور عالجناها في مساحات أخرى بالتفصيل بما يضع فاصلاً بين الوحي الإلهي العدل بما اكتنفه من ممارسة نبويّة حكيمة وواقعيّة، وبين الفهم البشري والتفسير الناقص والمتخلّف الذي ساد وسيطر، لكنّنا هنا نروم التفريق بين النصّ القرآني كوحي “ذكوريّ اللغة والتوجّه”، وبين تعليلات وممارسات المسلمين وبنية عقائدهم وخطاباتهم وتنظيراتهم لهذه الذكوريّة، التي أسهمت في احتقار المرأة وظلمها وتخلّفها وإهدار كرامتها، فهذه أمورٌ مُدانة، لا يُدافَع عنها ولا كرامة، هي عارٌ علق والتفّ بالنصّ الإلهيّ، كالتفاف النبتة الخبيثة المتسلّقة على ساق شجرة طيّبة.

هدفنا الرئيس إذاً تبيّن حكمة النصّ القرآني، واستلهام مغزى ذكوريته، وهي ذكوريّة بلا مواربة، بغضّ النظر عن سيل المحاولات التي تلوي المسألة لإنكارها سواءً تماهيا مع مناهج ألسنيّة مقترحة، أو دفاعاً أعمى ضدّ اتّهامات غربية، وليس هو القرآن فقط مع كونه نصّاً محفوظاً، بل كلّ النصوص الدينية، توراتية، إنجيلية وسواها، هي ذكورية بالمجمل، طبعاً بعضها كان للعقليّة الكهنوتيّة السائدة دورٌ في ذكوريّة صياغتها، لكن هذا لا ينفي ذكورية النصّ الموحى أيّا كان.

فخلصنا إلى نساء يهتفن؛ الرجال ينبغي أن يُساوين النساء، لكنّ خطاب الوحي ذكوري وتمييزي بامتياز.

ورجال يُجيبون: اتّقين الله، فالرجال أفضل من النساء بنصّ الله وبقضائه الكونيّ والشرعي، لذلك الخطاب ذكوري.

عيب الاثنين أنّهما ينظران من جهتيهما وزاويتيهما لملء إنائهما، ولا يستقرئان الواقع كما هو ليضبطا النصّ عليه ويستبصرا عدله ومناسبته لموضوعِه.

وخرجت محاولات تجديديّة خجولة تحاول إخراج لُغة القرآن من مأزق ذكوريّتها (!)، بعضها بما يتّفق مع مقولات “الجندر” الحديثة، بتبديل معنى “رجال” و”نساء”، أو بالالتفاف على الضمائر، وبتغيير بنية اللسان العربيّ.

ونقول: (الرجال شرٌّ من النساء، لذلك خطابات الوحي ذكوريّة وخاصّة له إجمالاً، والمرأة مُستبعدة ومُحيَّدة)، هذه العبارة هي عنوان البحث كلّه وخلاصته، والتفصيل سيأتي.

إنّ الواقع، والخلقة الطبيعيّة، والسلوك، والفطرة، والعقل، والوحي، وكلّ الأدلّة، تشير أنّ المرأة مخلوقةُ رحمةٍ وسلام، و”الرّحْم” اشتقّ من “الرحمن” بحسب المأثور، منذ البداية كان الذي عصى وغوى هو الرجل آدم، والذي قيل له “اسكُنْ أنتَ وزوجُك” آدم لتوقّع تهيّجه وعدم ملازمة سكنه (وهو ما حصل)، والمرأة سكَنٌ بطبيعتها وساكنةٌ بفطرتها (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)(الروم:21)، والمشاكس هو الرجل، المرأة بطبيعتها تمتلك الحنان والرقّة والرحمة واللّين والوداعة، لذلك كلّفها سبحانه خَلقيّاً بالحمل والإرضاع والتربية، وهذه أمور يعجز عنها الرجل، وسلّحها بالطبيعة المناسبة لهذه الوظائف منذ أن سُمِّيت أوّل انثى “حواء” كمحضن رحمة “تحوي” الخلق حملاً واحتضانا وتنشئة.

فإذا علمنا أنّ هدف الخليقة منذ نفخ الروح الربّانية في البشر وإنشاء الجنس الإنساني العاقل هو خلافة الله أي التخلّق بأخلاق الربّ وصفاته من حبّ ورحمة وحكمة وسلام وإبداع.. لاستنهاض الدور الاستخلافي، وأنّ الإنسان سقط عن مواكبة المشروع الجديد بتلبيس إبليس وإفساد نظام الذرّية الإنسانية مع سقطة آدم الأوّل (بيّنّا هذا في بحوث السّراة)، أدركنا أنّ هدف الوحيُ -كمشروع بديل- وعلى طول التاريخ هو إعادة تأهيل الإنسان القابع في طوره البرزخيّ الدنيوي، ليتهذّب إنسانُه ويعود إلى دار مقرّه جنّة السلام التي خرج منها، وأنّ سلاسل الهدى مُوحاةٌ ليهدي الله (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(المائدة: 16)، ودار السلام، وليدخل في السلم كافة، ويفشي السلام، ويحيا السلام.

وإذا علمنا أنّ الله خلق الخلْق للرحمة (إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود:119)، وعلمنا أنّ المرأة تمتلك طبيعيا وفطريا حسّ الرحمة ومقوّمات السلام والسكن والصبر، وأنّ الرجل هو الذي يفتقد هذه السمات لما تسلّح به من قوّة وعنف وقسوة وحدّة وطفور، أدركنا أيّ الجنسين أولى بالمصنع الإلهي لتهيئته “للسلام” و”الرحمة”، فآدم وليس حواء هو الذي تاب الله عليه وتلقى الكلمات الأولى عبر حواء، كما بيّنّا في “بحوث السراة”، ومنذ سلّمت حوّاء رسالة الوحي الأولى إلى آدم الذي عصى، تنحّت حوّاء بإعطائه البشرى بتوالي الرسائل الربّانية على جنسه لهدايته، فخُوطب (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:38) وفعلاً صدق الوعد وخوطبت الرجال دائماً لأنسنة همجيّتهم الدخيلة عليهم والمرافقة لطباعهم، وكانت المرأة طرفاً ثانويّاً.

وإذا علمنا أيضاً أنّ الوحي موجةٌ بثّية ككلّ الإيحاءات، ليس عربيّا ولا أعجمياً، ولا يخضع نظامُه لثنائيّة جنسيّة؛ ذكريّة وأنثويّة، ولكوْن اللغة البشريّة اللسانية ما هي إلاّ نتاج لمفاعلات العقل حين نزوله عالم الواقع، ونظراً لأنّ المخاطَب الأوّل تهذيبًا، وأمراً، ووصايا، ومعصية، وندماً، وتوبة، وكلماتِ هدى، وخروجًا عن النظام، وهبوطاً، واشتغالاً ومقاساةً في أرض الواقع، هو رجَلٌ ذكرٌ (أي آدم)، فانعكس هذا على بُنية اللغة كونها ترجمانا “واقعياّ” للوحي، أي كونها لسان الفم المعبّر عن لسان الحال، فجاءت مُصدّرة ومُصطبغة ومُغَلّبة بالذكوريّة الآدميّة، وظلّ المخاطب بالوحي ذكراً، وظلّ القالبُ اللغويّ -المنسكب فيه الوحيُ والمترجم به- ذكريّا تبعاً لبُنيته الأولى.

لقد وجدنا أنّ المرأة في كلّ التراث الديني، أقرب إلى الرحمن بالطبيعة، “وأعزّ من الكبريت الأحمر“، وإيذاؤها أكبرُ جرماً من إيذاء نبيّ، والمرأة أُمّاً مقدّمةٌ لدى الله حقوقاً وعقوقاً على الرجل الأب، ورمي المحصنة الغافلة أشدّ من رمي المحصن ويستوجب اللعائن والعذاب، وقتل المرأة وسلبُها أشدّ وأبشع وأنكر، وضرب الفتاة ولو تأديباً أظلم وأنكر من ضرب الصبيّ، وإيقاع الأذى النفسي على المرأة وبالذات الحامل والمرضع والمربية ينتقل جينيا وبرمجيًّا إلى الجيل الثاني، وتُقاس الحضارات ورقيّ طبائعها بمعاملتها للمرأة.

لهذا، فالذي يُخاطَب وينبغي مخاطبته بـ “ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم من في السماء” وهو خطاب ذكوري بمتكلِّمه وبضمائر مُخاطَبيه، هم الرجال، ومن التجاوز والعبث مخاطبة النساء بذلك، لأنّ طبيعتهنّ الرحمة، ولأنهنّ هنّ المظلومات المطلوب رحمتهن و(ما أهانهنّ إلا لئيم)، بل هنّ محطّ غايات خطاب الرجل.

إنّ المرأة نفحةٌ رحمانية، فكما أنّ النص يقول للرجال (اعبدوا الله/اتّقوا الله)، فإنه يقول لهم اتقوا الله في الأرحام أيضاً، الخطاب هو للرجال لأنّهم ببساطة منطقيّة الطرف المراد تهذيبه، لذلك منطق القرآن ذكوري، لا للتغليب، ولا للتشريف، بل للتكليف فحسب، ضمن المشروع الكلّي الذي له بداية ونهاية، إنّه تماما كما نقول: “لماذا تُؤخذ الفتيان إلى المستشفى ويُعطَوْن وصفات الدواء والمواعظ الصحّية والإرشادات وتُهمَل الفتيات؟!” هل لأنّ الطبيب يحبّ الفتيان؟ كلا، بل لأنّهم وحدهم المرضى لا الفتيات، مرضُ الفتيان يُعدي ولا يُحتمل، ومرضُ الفتيات جاء بالتّبع، وهو غير معدٍ ويُحتمل، لذلك حين فسد الرجلُ فسدت الدنيا، و”إذا فسد العالِم فسد العالَم“!

وحين افتُري على “الصادق الأمين” وقيل “أكثر أهل النار النساء” كانت كذبة رخيصة، وتصحيحها “بالصدق والأمانة” أنّ “أكثر أهل النار الرجال” حتى أنّ امرأتي لوط ونوح هما اثنتان قبال من كذّبهما من آلاف الرجال فدمرّ أصحاب لوط بحجارة البركان، وأغرق قوم نوح من خطيئاتهم، فقال القرآن بشأنهما (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ … فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(التحريم:10)، كانتا مثلا “للذين كفروا“، ودخلتا النار “مع الداخلين” لا مع الداخلات، ليس لتغليب ضمير الذكور، بل لأنّ الذكور هم المعنيّون أساساً، والمرأة أمرُها هيّن، فالرجال أكثرُ أهل النار بلغة القرآن الذكوريّة وموازينه (وسنفصّل هذا لاحقاً)، وبمنطق التاريخ، وبالإحصائيات البيّنة، بأنّ الرجال هم مَن قتل، وذبح، واغتصب، وهدّم، ونسف، واجتاح، وأغار، وفجّر، واستباح، أفسد، وسفك الدماء، وبأنّ قيادات الحروب وزعماء البطش هم رجال، ساسة، وقادة، وتيجان، وأباطرة، وعنصريون، وساديون، وأربابُ إلحاد ونُظم إفساد، فكّر في رمزٍ للإجرام وسيقفز لك مباشرةً اسمُ رجل، فكّر في نفسٍ قتلت 42 مليون نفساً، 22 مليون، 7 ملايين، 5 ملايين، 3 ملايين.. فنازلاً، وهي أرقام حقيقية وموثّقة عالمياً، فلن يخرج لك إلا أسماءُ رجال، كلّ طغاة العصور الذين اجتاحوا البلدان، والذين قتلوا الأطفال، وأبادوا الشعوب البدائية والمتحضّرة، وارتكبوا جرائم الحرب، واغتصبوا النساء، وهشموا جماجم الأطفال، وسرقوا المال، وأحرقوا الأرض والأشجار، وسمّموا المياه، وأشاعوا الدمار، وطوّروا أسلحة جهنّم للفتك الشامل، والقنابل المحرّمة والصواريخ المفزعة، وهدّوا المباني على ساكنيها، وقتلوا الأبرياء، واستبدّوا، واستأثروا، واستعبدوا، وصنعوا الجوع، وأفسدوا البيئة، وخرّبوا الطبيعة، وقرصنوا، ونشروا الدعارة، والمخدرات، والربا، والخمور، وتاجروا بالبشر، وحوّلوا النساء إلى إماء للجنس، والجلادون الذين عذبوا وقتلوا، والسفّاحون، والذين أبادوا شعوبا بأكملها بعنصرية بغيضة وأحرقوهم، والذين قتلوا آلاف الأنبياء والصديقين، ونصبوا المشانق، وطاردوا المفكّرين والأحرار والنساء بعنوان الهرطقة والسحر، والذين باسم الدين قاموا بأبشع الجرائم ففتّشوا الضمير ونخروا الإيمان، والكفار، والمنافقون، والكهنة الكذّابون، والذين جعلوا أنفسهم آلهةً تُعبد، وكلّ المستكبرين… كلّهم، كلُّهم رجال، حتى أنّك لن تجد مصطلح “ديكتاتورات، مستبدّات، جلاّدات، مغتصبات..الخ”!

الآن، اقرأ “الذكر الحكيم” ستجد “أكثر أهل النّار“: المفترين على الله، المكذّبين لرسله، المجرمين، الظالمين، المستكبرين، الكافرين، الطاغين، الفاجرين، المنافقين، المطففين، المرائين، آكلي أموال اليتامى، المترفين، المفسدين، المعتدين، كانزي الذهب والفضة، وهؤلاء 99% منهم رجال، ويكفي أن نعلم أنّ معظم السور المدنية الطوال وأكبرها كسورة البقرة وآل عمران والمائدة والنساء والأنعام وغيرها تتكلّم عن أهل الكتاب الذي حاربوا النبيّ (ص) وكذّبوه وبالأخصّ اليهود وهؤلاء كلّهم رجال، الشياطين منهم والكافرون والمنافقون، حتى “إبليس” لا أحد يتوقّعه أن يكون امرأة.

وخطابُ القرآن موجّه لإدانة وتقريع كلّ هؤلاء الأصناف، ويُوجّه باقي الرجال ألا يكونوا مثلهم، فيحثّهم ويُغريهم بالجنان ويخوّفهم بالنيران، أن يُجاهدوا في سبيله هؤلاء، فطبيعي أن يكون 99% من خطابه للرجال، سواء عن وعيده لأشرارهم بالنار وعن وعده أتقيائهم ومجاهديهم ومحسنيهم بالجنة والحور العين، والمرأة لها ما له بالتأكيد، بحسب قياس الأولوية، ولا داعي للحديث عنها لأنه أمرٌ مفروغ وواضحٌ.

ولأنّ الرجل هو الذي أفسد وسفك الدماء، وهو الذي ينبغي إرجاعه لجادة السلام بترك الإفساد وسفك الدماء، فبعث له رسلاً وأنبياء من جنسِه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)(يوسف:109)، وقد قتلَ الكثير منهم شرّ قتلة، مع قوّتهم ورجولتهم، فما بالك لو بعث اللهُ نساءً لما قتلن فحسب بل تمّ اغتصابهنّ من قبل المتوحّشين الفجّار وجعلهنّ يحملن سفاحاً، ولما أنصت الرجال لغرورهم لها، ولما ناسبتْ لهم أن تهديهم عن قسوتهم وتديرهم وتدبّرهم، فهم بحاجة لقوّة أقوى منهم تعلّمهم الرحمة والسلام، فلذلك ما أرسل الله إلا رجالاً ولو أرسل ملاكًا لجعله أيضا رجلاً، يحاورهم ويقارعهم ويجالسهم ويُجادلهم ويجالدهم ويتحمل استهزاءهم وأذاهم وحتى قتلهم وصلبهم ورجمهم له.

فخطاب القرآن معظمُه تقريعات وهداية سلوك، وهذه خطابيّات مُوجّهةٌ للرجال خاصة، أمّا معارفه وقصصه وعبره وعلومه فهي للجميع، فإذا استمع الرجل وأطاع فالمرأة مفروغٌ منها لأنها أسمع وأطوع وأسكن وأرحم وأقل شرورا، لذلك تجد إذا أسلم الرجل أسلمت امرأتُه وبناته، وليس العكس صحيحا، ليس لأنها تابع وأقلّ عقلاً بل لأنها أسهل عريكة وأكثر تواضعا ورحمةً وأقرب فطرة، وأخف شرورا وغرورا وعزّة بإثم واستعلاءً واستكباراً وطغياناً.

هذا كلّه كلام بحسب الطبيعة والمشاهدة، ووجود استثناءات نسائية شاذّة جبّارة هنا وهناك لا تخلّ بالقاعدة المحكمة المنسابة مدى التاريخ.

فالقرآن لم يُساو النساء بالرجال، بل ميّز الرجال بالخطاب (الهدائي التقريعي التهذيبي) لأنّ النساء أفضل، وخاطب الرجل بألا يظلم المرأة ويعطيها حقوقها ليس لأنه المقرّب من الإله والأشرف ليُخاطبه، بل لأنه هو الذي يعتدي ويستأثر ويتجاوز على الحقوق، ويظلم، ويتميّز بالقوّة، وبهرمونات العنف، وحبّ السيطرة، فعاجله ليُعالجه بألا يظلم المرأة ويُؤتيها حقوقها كما في سورة النساء التي تتكلم عن النساء لكن بخطاب موجّهٍ للرجل، حتى آية الإرث تتكلّم للرجال بضمير المُخاطَب وعن النساء بضمير الغائب (إن لم يكن لكم ولد/إن لم يكن لهنّ ولد)، لأنها المهضومة الحقّ وهو الهاضم.

سورة النساء، كعيّنةٍ اختبار، بل كأدلّ نموذج للخطاب القرآني، لفحص ذكوريّته بثنايا سورةٍ المفروض أن تكون خاصّة بالنساء وحدهنّ، فإذا بنا نلفى العكس تماماً، أنّها كلّها خطابٌ للرجال لتسديدهم في معتركهم ولتقليم أظافرهم وتهذيب رعوناتهم تجاه النساء، فمنذ أوّل آية خاطبتهم (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) والأرحام هنّ النساء، وثانيها (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)، وثالثها (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) وهي آية حقوقيّة أُسيء توظيفها وتفسيرها، ورابعها (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ..) وهكذا .. حتى آية 11 (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ..) كلّها مُخاطَبُها رجال، بدليل قوله بعدها (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ..) ضمير المخاطَب “كُمْ” للرجال، وضمير الغائب المُتحدَّث عنه “هُن” نساء، ثمّ يُعلن مهدّداً مجتمع الرجال (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ..) (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) وتُواصل السورة حديثها للرجال عن النساء بضمير الغائب (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ..) وتخصّ الرجال بضمير المُخاطَب (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ..) .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ..) .. (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء..) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ..).. ثمّ تأتي آيات المعارك مع الكافرين ومجادلة أهل الكتاب والمنافقين ومواجهة دسائسهم الداخليّة في مجتمع المدينة، وجميعها موجّهٌ للرجال لأنّهم المباشرون لمصطرع الأحداث، حتى تعود مرّةً أخرى لحقوق النساء بمخاطبة الشقّ المراد تهذيبهم (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء..) .. (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء..) ثمّ تُبيّن أنّ خطابات الوحي السابقة واللاحقة ذكوريّة موجّهة للرجال لتطعيمهم بالتقوى، وتهديدهم بأنّ التعدّي على الحقوق النسائية والحدود والقوانين الضابطة لأخلاق الرجال تجاه سلميّة الحياة يُعدّ “كفراً” يستوجب عذاب السماء وخذلانها (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) وتُبيّن أنّ عمليّة وحي الرسالات والشرائع جاءت لأفراد رجاليّة فقط (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) وتختم السورة بمخاطبة الرجل عن المرأة (المُتكلّم عنها) (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ..).

هذا يقودنا أنّه ليس من مساواة في الطبيعة، بل هناك عدالة وحكمة توزيع أدوار، فالمساواة في الحقوق والواجبات والكرامة والإنسانية والفرص فهذا قمّة العدل، لكنّ الطبيعة فرضت أمورًا ميّزت كلا الجنسين ومايزت بينهما، وليس كالفلسفة الحداثية الغربيّة التي تريد مساواة الرجل بالمرأة بحيث تزيل الأنوثة والرجولة لأنها تعدّها مظهرا اجتماعيا وتربويا عُزّز بالتلقين والفعل والعادات الاجتماعية وأنّها من القيَم المتغيّرة، بحيث لو بٌرمجت النساء على شيء غير هذا لتغيّرتْ طبيعتهنّ! هذا خاطئ، فطبيعة المرأة سلبية، حمائية، صبورة، ساكنة، رحيمة، حييّة، مسالمة، ليّنة، رقيقة، شفيقة، هي ليست أقلّ ذكاء وحكمة، لكنّها أكثر رقّة ورحمة، وسلّحها سبحانه بمظاهر النعومة من رحمة وجمال، لا بمظاهر العنف والقوة الجسدية، ليحتمل كلٌّ من الجنسين وظائفه التي تليق به جسمانيا ونفسيا عن طواعية وتكامل لا بإقصاءٍ وفروض وصاية، وبلا احتقارٍ لمهنة أحد، فالأعمال الشاقة والكدح وأعمال العنف كمقاساة الحروب بأسلحتها الفتاكة والدموية وكمهنة الجلادين والجزّارين، والوظائف الدونية ككنس البواليع ودفن الموتى وجمع القمامة والقاذورات، والخطرة كعمّال المناجم والفحامين والحدّادين والحفّارين والبنّائين سيما على الشاهقات وناطحات السحاب، كلّها تناسب بنية ملايين الرجال، وإن تُوجد استثناءات لعشرات نساء يستطعن ممارستها.

والمهن الشريفة وغير الخطرة، كالإدارة بالغاً ما بلغت ولو للدول ولأكبر الشركات، والطبابة والتمريض، والتربية والتدريس، والرئاسات والسياسات والأعمال المدنية، والزراعة وتوابعها، والصناعة وتوابعها، وكلّ المهن والميادين التي ليس فيها قسوة، وخطورة، ودناءة، هي لائقة للجنس الألطف الساكن الرحيم الوديع المسالم، لأنّها تحفظ فطرته وكرامته وحقّه.

لقد قال البعض أنّ مأزق الخطاب التجديديّ ذي المرجعية الإسلاميّة هي “لاتاريخيته”، بمعنى إخلاصه للنصّ أكثر من إخلاصه لحقائق التاريخ والواقع، والحقّ إنّ إخلاصهم لم يكن للنصّ كما يُتوهّم، بل لتفاسيرهم للنصّ ولموروث عقائدهم، وإلاّ فكما رأينا النصّ، والتاريخ، والواقع، تتكلّم ذات اللغة.

  1. – وُجدت حالات عصرية استثنائيّة لتفسير آيات من القرآن أو ترجمته، من مسلمات أو مستشرقات غربيات، مع أنّ من أوّل المتكلّمين بمعاني القرآن كانت أمّ المؤمنين عائشة (رض).
  2. – أنظر: سلسلة بحوث مشروع عندما نطق السراة، جمعية التجديد الثقافية الاجتماعيّة.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *