180 درجة

في النصف من شعبان في السنة الثانية للهجرة، وبعد سبعة عشر شهرا منها على التحديد، صلى النبي (ص) بالمسلمين في مسجد بني سليم فريضة الظهر مستقبلا شمالا، ثم صلى العصر في نفس المسجد جنوبا، فاستقبل ما استدبر واستدبر ما استقبل، في تحوُّلٍ أحدث خضّة عظيمة في المسلمين وفي غيرهم من أهل الكتاب والمشركين.

زعموا أنه صلى نحو بيت المقدس، ولا دليل على زعمهم، فلم يرد شيء عن النبي يفسر كنه جهة الشمال هذه، وكل من زعم هذا الزعم فقصارى دليله رأي منسوب لصحابي لا عن قول للنبي.

وإنما تعاضد هذا الزعم حتى تسالمت عليه الناس لِمَا قيل إنّ المسجد الأقصى هو هذا الذي في القدس، وإنّه موضع العروج، ووجِّهت آية الأقصى – السابقة على وجوده – إليه، ثم ترسخ في عواطفنا لمّا رأينا حرص أهل الكتاب على احتلاله وتدميره لإقامة هيكلهم مكانه، والحق إنه لو صح زعمهم لعاضد زعمنا، ولو صح زعمنا لعاضد زعمهم، إذ الزعمان يثبتان عظمة للمكان وإن اختلفا في وجه العظمة فما هما من بعضهما ببعيد، والرأي أنّ كل الأقوال أخماس بأسداس.

تقع ” تيمن” ” تيمان” “تيماء”، على بعد 440 كيلو متر شمال المدينة على خط التجارة، وكان لها شأن في العصر القديم، وقد ذكرت في الكتب المقدسة[1] وكانت موطنا لأهل الكتاب خاصة اليهود[2]، ولكن تاريخها اليوم وبالأمس كان مجهولا، أو تُعُمِّد تجاهله لأهداف مريبة، ومن ثم قيل – جهلا أو تجاهلا – إنَّ القبلة كانت نحو (بيت المقدس) الذي يقع على نفس السمت، موافقا لإرادة أسياد الإعلام يومها من الروم و اليهود، والذي تقاطع بعد ذلك مع مصلحة المروانيين في حربهم لابن الزبير لما احتل الكعبة، فبنى عبد الملك مسجد القبة (الصخرة) كتعويض عاطفي لأهل الشام عن حصارهم واضطرارهم لإعلان الولاء لابن الزبير أثناء حجهم[3]. وقُدِّست الصخرة على أنَّها مرقى المعراج، وهي تقول لم أدّعي، ولكن الأسطورة لا تجد مما بين أيدينا شيئا يحتمل الخلود كالصخور، فكان في كل دين صخر مقدس؛ أكثره بالباطل.

وبناه –أي عبدالملك بن مروان- مستديرا حولها، في معمار يدعو للطواف، كيف لا؛ والطواف حركة كونية؟! ولقد وجدنا عوام المسلمين يطوفون بقبر النبي – تعظيما لا نسكا- قبل أن تعمد إدارة المسجد إلى غلق الممر بين بيته والجدار قبالة باب الزهراء، لتقطع عليهم ما توهمته من أنّهم يتنسكون على غرار الكعبة.

فلم لا تكون تيمن هي الوجهة؟ ربما كان فيها بقية مواريث موسى وأنبياء بني إسرائيل كالتابوت مثلا، وربما لأسباب أخرى مجهولة أو مخفية، ولكنها كانت يوما ما موضع التقديس، ولا تزال بها آثار مثيرة للاهتمام.

وكما ظل سر ” تيمن” مخفيا فلا يزال سر تحويل القبلة محاطا بالأسرار والتساؤلات التي لم تبح عن مكنون جوابها، فلا يزال السؤال منتصبا كالأشجار المثمرة تنتظر القطاف الذي يكشف وجها من عظمة تفكير النبي واستقلالية قراره.

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)(البقرة: من الآية144)، خمسة عشر عاما وهو يصلي نحو الشمال نحو “تيمن” كما يفعل المؤمنون من قبله، ولكنه يبطن أمرا آخر، ويتحين الوقت المناسب لتحقيق رأي يراه أصوب وأنفع وأوضح وأقرب.

لم لا يصلي للبيت الحرام؟ أعليه أن يقلد من قبله في قبلتهم ولو كانوا أنبياء؟ أليس من حقه أن يتبع ما تبين له من الحق الأحسن؟ (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18)، خاصة وهو يؤسس لأمة خاتمة؟

قالوا- فجعلوا إرادته عاطفية – إنه أحبّ قبلة أبيه إبراهيم ، وقالوا – وقد استقبلها والأصنام فيها – تجنبها لأن بها الأصنام، وقالوا – وقد فارق في التحويل أهل الكتاب – إنه أراد أن يوافق أهل الكتاب تألفا،…..

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2) لا ينبغي أن نفهم قرارات النبي الإدارية بعيدا عن صلب مهمته الكبرى، التطهير والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة، إنها العمل على صياغة أمة جديدة، متطورة، تحمل رسالة سماوية عالمية أخيرة، فلا يجوز أن يقيدها بالتقليد للماضين ولو كانوا صالحين، بل عليه أن يحرر عقلها وفكرها لتظل في حالة وعي دائم وزكاة مستمرة.

كان بإمكانه أن يختار طريقة التغيير الفوري، أو الثورى، ولكنه أراد كما هي سنته أن يختار الطريقة التطورية، كان ينتظر السؤال أن يثور في وعي المؤمنين، لم الشمال المجهول بينما المقدس المعلوم في الجنوب؟

إثارة السؤال هو أول الوعي، واقتناص الجواب هو أول العقل، والعمل به هو أول الإيمان. قد فعلها البراء بن معرور الأنصاري[4] فكان أول من اختار الكعبة قبلة ولم يستوعب الشمال تقليدا، ولما كلم النبي في ذلك قال له: “لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها”، ثم أمره أن يصلي شمالا. “لو صبرت عليها” مثقلة بالإيحاء، وأن ما جال في قلب البراء حق سيأتي يومه، فلا أحد يصبر على ما يحب، إلا عما يحب. وكان هذا قبل الهجرة!

هكذا أراد النبي لأمته أن تواجه السؤال، ثم تبحث عن الجواب، لتقتنص ثمرته بالعمل، فهل كان له ما أراد في حينها وبعدها؟ أما اليوم فهي تربي على الخوف من السؤال، وعلى الصدود عنه، وأن النجاة في التقليد الذي يسمونه الاتباع.

لو كان النبي يبحث عن “القوة الموضوعية” فقط لما كان هناك باعث له ليفكر في تغيير القبلة، فموافقة الآخر (أهل الكتاب)، وتهدئة المنافقين، وعدم فتنة المؤمنين، نتائج يوفرها خيار السكون والاستمرار في التقليد، إنه ليس محتاجا إلا لمتابعة عواطفه وإرادته دون احترام نتائج عقله وتفكيره، ولكنه ما جاء لطلب السلطان، ولا ليربي أمة تعشق التبعية، وتتنكر للعقل الحر أن يفكر ويثير السؤال، فقد جاء ليربي في أمته “القوة الإيمانية” التي لا بد فيها من تحكيم العقل في العاطفة وتوجيه الإرادة، في مزيج متناغم ومتساوي المقادير: ثلث من عقل وثلث من عاطفة وثلث من إرادة، بل كل العقل مع كل الإرادة وكل العاطفة.

هل سيمكنه أن يزكي أمته ويطهرها لو اتخذ التغيير الثوري أو الفوري؟ هل ستتطور حينها أم سيكون تغيرها قفزا فوق الوعي والتجربة؟ إنها المشكلة القائمة حتى اليوم، فكل شكل أريد به مضمون بقي -ويا للأسف– شكله وذهب مضمونه، فالوضوء والغسل يحققان الطهارة الخارجية (الموضوعية)، وغرض الغرض منهما بلوغ الطهارة الإيمانية، ولكن أيّ الأمرين بقي فينا وأُلفّت فيه المطولات، وتنازعت فيه الآراء، واختلفت فيه المذاهب؟ أليس هو الطهارة الموضوعية (الظاهرية)؟ فطهارتنا إذاً هشة تذهب بالنوم والحدث!

حينما طلب من المؤمنين الوضوء لم يكونوا يعرفون الغاية، اللهم إلا الطهارة الشرطية لأداء الصلاة، ولكن الغاية الأعمق كانت صناعة الطهارة الإيمانية للتأهل نحو التطور، وكان لا بد من بداية ممكنة للسمع والطاعة، وهل هناك ما هو أسهل للسمع والطاعة من الطهارة الموضوعية عبر الماء أو التراب إن لم يتيسر؟

كان الغرض هنا أن يقول المؤمنون: سمعنا وأطعنا، ولكن لا ليظل السمع والطاعة شكليين، بل ليتعمقا في العقل والقلب والنفس، فينتج عنها وحدة متناسقة من الطهارة العملية في البدن والمال والفعل، أينما كان وفي كل الاتجاهات، وإلا فلا جدوى ولا نفع.

قد لا نشعر باختلال الميزان في دواخلنا، وقد نشعر بالتفاؤل والرضا لقيامنا بأعمالنا المفروضة من صلاة وصوم وحج وصدقة…، وقد تكون ثقتنا بقبول أعمالنا عالية، ولكن الحقيقة تظل بعيدة عن هذا التفاؤل، شاهدة بأنه في غير محله، وأنه مجرد عاطفة لم تقم على وعي نابع من عقل ناضج، فمن الواضح جدا أننا نفتقد الطهارة والزكاة كموقف متحكم ومسير لأعمالنا، فهل نعمل ضدّ أنفسنا بإخفاء الحقيقة عن أنفسنا وسط ضباب كثيف من المظاهر الحسنة؟ فما النفع في هذه المظاهر إذا لم ينتج عنها تبعية للحق أيا كان مطلعه، ومفارقة للخطأ أيّا كان داعيته؟ ألا ترى حالنا وقد غيب الهوى وعينا؟ ودمر التعصب عقولنا؟ وجمد التقليد فكرنا؟ فها هي الجرائم العظمى –جرائم القسوة– يقترفها أناس يُصَّلون…

إن كثيرا من الأمور تلقي علينا أسئلة لتستفز فينا التفكير، تريد أن تأخذنا نحو آفاق جديدة مثمرة لم تذهب إليها أوهامنا، ولكننا بفعل العادة والغفلة نعتبرها أمورا مفروغا منها، ولا أسئلة فيها ووراءها، فتذوي ثم تموت، لأنها لم تتحول إلى عمل يطور الحياة اليومية المعاشة، وهكذا في شأن القبلة، فقد كانت شمالا ثم صارت جنوبا، فلم نتساءل –تساؤل الباحث- لم كانت شمالا؟ ثم لما صارت جنوبا نفرنا من تغيير المألوف، فأزعجنا تحولها جنوبا، في انفعال غير واع باعثه مخالفة العادة والسكون: بقينا هكذا خمسة عشر عاما فلماذا لا نواصل؟ لم التغيير؟ ألم تكن صلاتنا مقبولة؟ …

كان النبي ينتظر نضج السؤال في المسلمين فلما قدّر أن الساعة حانت، عمد للتغيير الذي فاجأ الجميع، صلى الظهر شمالا ثم العصر جنوبا! فكأنه يقول إنه على استعداد تام لاستدبار الرأي والموقف بمقدار 180 درجة إذا تبين أن الجديد أحسن، وهكذا أراد لهذه الأمة أن تكون من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18).

وهذه المفاجآت كبيرة على المنافقين، فهكذا تحولات انقلابية في الرأي والموقف تكون كبيرة إلا على الذين هدى الله. ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)(البقرة: من الآية143).

المنافقون يسايرون لمجرد الاستتار، ودخيلتهم رافضة، فهم ينظرون للنبي نظرة حسد، ويشعرون بالنفور من كل تعظيم يناله في الناس، وتأبى قلوبهم الخضوع، وتستفزهم الأوامر التي يجب عليهم مقابلتها بالطاعة، يتصبرون على أوامر الروتين كيلا يفتضحوا، لكن الأوامر الانقلابية تستفزهم، لأنها تشعرهم أكثر وأكثر بالهزيمة، وتشعل أكثر وأكثر في قلوبهم نار الحسد.

التحول إلى مكة عمل مفهوم في ذهن المسلم، فهي البيت الذي يعلم أنه مقدس منذ زمن إبراهيم، يراه ويلمسه ويعايشه، فلم يستقبل جهة مجهولة مكانا وطبيعة؟ ما هي هذه الجهة التي يستقبلها؟ ولم يستقبلها؟ ألأنها مقدسة عند أنبياء بني إسرائيل؟ فها هي الكعبة مقدسة عند أبيهم إبراهيم، أليست أول بيت وضع للناس؟ لم يتوجه نحو المجهول غير المعاش ويترك المعلوم المعاش؟ هذه أسئلة البراء بن معرور، وربما دارت في رأس بعض المؤمنين، ولكنهم كبحوا السؤال طاعة وتسليما، ومضى آخرون مع (إلى هناك كان يصلي المؤمنون قبلنا).

التحول نحو الكعبة أزال الانفصال العقلي بين عبادة وعبادة، الحج للكعبة فكيف تكون الصلاة باتجاه غيرها؟ فإن كان هذا الغير أعظم منزلة من الكعبة فلم لا يكون الحج إليه؟

التحول نحو مكة قلص المسافات الروحية بين مكة والمدينة، فبعد العناء والعذاب والظلم، كان من الطبيعي أن تثقل قلوب المسلمين نحو مكة وأهلها. تثقل على أهلها فليكن، ولكن ليس مكة، ليس بعد الآن، فلا تزال مكة بيت الله المقدس، فكان هذا منبعا للمعنويات العالية تشد العزيمة نحو تخليص المقدس من يد المدنس، فكانت مكة قبلة للعبادة وهدفا للجهاد.

مكة ليست بعيدة المكان ولا الزمان بعد الآن، ففي كل يوم يجب أن ترتحل إليها القلوب خمس مرات وأكثر، المؤمنون أولى بها من المشركين، عمارتهم فاسدة فيجب تصحيحها (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) ، صلاتهم لاهية (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (لأنفال: من الآية35)، وتقديسهم فجور (وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ).

كان وقع التغيير شديدا على المنافين وهكذا أراد الله بهذا التوقيت أن يفضح المنافقين من العرب واليهود، ويميز بينهم وبين صادق المؤمنين، لأن الأحداث المقبلة ستكون حاسمة وعظيمة فلا بد من كشف الزيف قبل وقوعها.

كان حدث الإسلام في المدينة المنورة كاسحا وسريعا لم يسمح لليهود والمنافقين ترتيب أوضاعهم لمّا فاجأتهم الأحداث، فخاطوا أفواههم، وعقلوا ألسنتهم في حضور المسلمين من قومهم وأصحابهم، ثم لمّا قدم النبي (ص) وجدوا أنفسهم ضمن الجموع مضطرين للتظاهر بما لم يؤمنوا به، فربما صلى اليهودي مع المسلمين على أنه لا فرق بين عبادة وعبادة، فالكل يعبد إلها واحدا، ويتجه قبلة واحدة[5]، فلما تغيرت القبلة للنقيض لم يتمكن هؤلاء من التستر فانكشف فريق اليهود من المنافقين، ولما كانت طبيعة التغيير حادة وانقلابية ثقلت على قلوب المنافقين العرب فبانت منهم إمارات النفاق.

وكأني بهم آمنين مطمئنين إلى ستار نفاقهم قد صلوا الظهر مع النبي وجاءوا يصلون العصر، فإذا بالنبي يعلن أنّ الصلاة للكعبة! فماذا يفعل المنافقون من اليهود من الذين (َإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14)، أيستدبرون قبلتهم أم ينكصون؟ فنكصوا. وكأني بالمنافقين من العرب وقد استفزهم التجاهل، واستفزهم الكبر، فخرجت منهم من دون سيطرة كلمات وحركات ونظرات وانفعالات فضحت نفاقهم لكل ذي عين بصيرة.

كان تغيير القبلة وافتتان اليهود والمنافقين امتحانا عسيرا للمؤمنين الذين ارتبطوا بهم بعلاقات قديمة من نسب ومصاهرة وتجارة وجيرة ومناصرة وغيرها، فقد كانت بينهم “عشرة عمر”، فهنا تنكشف معادن الرجال وقدرتهم على الإمساك بالموقف الدقيق، ولهذا فقد حدثت بعد التحويل عدة تحولات هامة انعكست على الأوضاع برمتها.

إن حدة الانعطافة في تغيير القبلة وبمقدار 180 درجة كانت ولا تزال الوسيلة القادرة على كشف النفاق من الصدق، فعند كل انعطافة من هذا النوع يثبت المهتدون ويتراجع المنافقون ذووا المنافع والمصالح والولاءات الجانبية، ففي مثل هذا الانعطاف الطارد تنفي جماعة المؤمنين خبثها، على نمط أجهزة الطرد المركزي. فمثل هذا التكتيك كان ولا يزال فعالا، لأن صدمته أقوى من أن يسترها النفاق، خاصة عند أول بادئتها.

هكذا كان حال الفئات المخالفة، ولكن الفتنة لم تقتصر على المختلفين بل قد تصل إلى الموافقين، فمع أن الله تعالى قال: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) (البقرة: من الآية143)، إلا أن هذا على مستوى الجماعة، ولكن لا يمنع أن يوجد –على المستوى الفردي- من يجانس الهوى بالهدى من المسلمين، فيأخذ من التحول مظهرا من مظاهر الهوى والأبهة الفارغة، فالمكيون من المهاجرين قد يفرحهم هذا التغيير لعلاقتهم بمكة فرحة هوى، تلازمت أو تجانست مع نداء هدى في آن واحد، وكم قد قتلت هذه الأهواء من مقاصد الدين العالية؟ وكذلك قد تجد نفس الهوى عند مسلم تقدم بمقولة في أحقية الكعبة بالاستقبال كالبراء بن معرور الذي -رحمه الله- لم يدرك التبديل وتوفي قبله.

وكائن من كان، فمن وقع في مثل هذا فقد أغرق نفسه في الضياع، فلا ضمان بالقدرة على الرجوع للهدى الحق بعد المخالطة بالهوى الباطل، فيخسر هداه بمثل هذا الفسوق الذي خالطه فأبعده، وساعتها يا للحسرة على مؤمن مخدوع بهواه ينحاز رويدا رويدا عن طريق مولاه، ومولاه يتولاه وهو لا يرعوي عن مجاراة هواه: (يا هذا: إلى كم أستميلك إلى حظك، وأتقلّب معك إلى مرادك؟ لستُ منك إن لم تُعِنَّي على ذلك، ولستَ مني إن سلكتَ طرق المهالك، أمِنَ العدل أن أنصحَك وتَغُشّني؟ وأرِقَّ لك وتقســو عليّ، وأريد بك الخير وتكايدني، وأهوى لك الجميلَ وتعنتني، وأدُلّك على رُشْدك وتضلّ عني، وأقيمك على المحجة فتتقاعس عليّ؟ إن هذا إلا شقاءٌ قد سيق إليك دوني، البُعْد منك البُعْد! البراءَة منك البراءة![6]

لقد كان تحويل القبلة نموذجا من التربية بالهدم، وهو الطرف المقابل للتربية بالبناء، قليلون جدا من يقبلون الهدم كعامل بناء، هم يحرصون على هدم ما بناه غيرهم نعم؛ ليشيدوا بناءهم مكانه، ولكنهم غير قادرين على هدم بناءهم الذي بنوه، ليتراجعوا عنه في سبيل إقامة بناء جديد بعدما تبين تراجع قدرته على مواكبة التقدم، انظر يمينا وشمالا وأخبرني مَن مِن المفكرين يهدم بناءه؟ مَن مِن السياسيين والزعماء؟ من يعلن ضرورة تغيير ما بناه وهدم ما أقام عليه سلطانه؟ إن العزة الكاذبة تمنعهم من المتاجرة مع الله بكرامتهم، لأنهم يرون أنفسهم فوق ما يدعون من مبادئ.

ولكن النبي أراد أن يعلم الأمة درسا – ويا للحسرة – لم تتعلمه، وذلك بتراجعه عن القبلة التي كان عليها خمسة عشر عاما، لما وجد أن وقت التغيير قد حان، واكتملت عناصره، ودقت ساعته، فبمثل هذا تتطور الأمم لا بالجمود والتقليد، فالعاقل يغير رأيه والجاهل عنود، (وما كان الله ليُضيع إيمانكم).

  1. Hb:3: الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران.سلاه.جلاله غطى السموات والأرض امتلأت من تسبيحه. (SVD)
  2. 13وحي من جهة بلاد العرب: في الوعر في بلاد العرب تبيتين، يا قوافل الددانيين 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء. وافوا الهارب بخبزه (سفر أشعيا)
  3. مجموع الفتاوي لابن تيمية 27/11
  4. سيرة ابن هشام ج1 ص 439
  5. تفسير ابن عاشور سورة البقرة قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ
  6. الإشارات لأبي حيان التوحيدي

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *