لماذا عندما نطق السراة
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)
سياسياً .. نحن في آخر الركب، فالاستبداد وانعدام الحريات قد اختفى من العالم أو كاد، إلا أنّ هذه الأمة قد كُتب لها أن تعيش كحال أوروبا في قرونها الوسطى. الأمة تئنّ تحت وطأة ضربات أعدائها واحدا تلو الآخر ولا حول لها ولا قوة. فلسطين الجرح النازف لا يجد الطبيب الشافي، وشعبها المشرّد منذ عقود قد كتب عليه أن يدفع ثمن التآمر واغتصاب الأرض والتراث. اقتصاديا .. لا ننهض حتى نكبو وأصبحنا نموذجاً بارزاً للتخلّف الاقتصادي، وخطط التنمية تتبخّر مع العشواء والنفعيّة وخور الإرادة السياسية لتنتج جشعاً وبطالة وفقراً. أخلاقيا .. انحدرنا حتّى عن أبجديّات القيَم الأولى. حضاريا ومعرفيا .. مفلسون وعالة ومُستهلِكون ومُستهلَكون. أمّا ثقافياً .. فجمودُنا أشعل خصومةً بين العلم والقرآن، فشلت كل جهود المخلصين في حلها. اتّقدتْ حروب المذاهب والطوائف ووجدت ما يغذيها في المأثور، فسوغت لفعلٍ طالما حذر منه خير البرية النبي محمد (ص)، الا وهو (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).
أشبع المخلصون من مفكري الأمة ومثقفيها الواقع المعاصر تنقيباً وتحليلاً للوصول إلى مكمن الداء، ليبدأوا بعده في وصف الدواء.
التجديد، كانت الوصفةَ التي وعاها المتنوّرون من أهلِ الإسلام للخروجِ من مأزقِنا الحضاري، لكنّا احترنا كيف يكونُ هذا التجديد، وقد تعرضت البنية التحتية لثقافة الأمة للتدمير على يدي أعدائها؟ وعلى مرأى ومسمع من مثقفيها ومفكريها ومؤرخيها، فكان لابد من غربلة التراث، الأمر الذي عاينا من خلاله كيف قام المزوِّرَ الأكبرَ، الذي نلعقُ بتخلّفِنا آثارَ دسائسِه، وصارَ تزويرُه علْمًا يُدرَّس في جامعات الغرب، ونُزقّ به في مدارسِنا، ويُبوّقُ به في منافذَ الإعلام، بمسخ صورةُ الأمّةِ الواحدة. فالفشل الذي حطّ على الأمة كأنّه من سنين الأبد، عائدٌ في جزء منه إلى تجمّد الوعي بسبب التحريف والتزوير في المقدسات والتراث.
لقد تم تفكيك أساطير المنطقة وصياغة أساطير وتراث على أساس وجوهر أساطير الأمة وذلك من أجل هزيمتها بها، عادوا الأديان باسم الدين، وجعلوا لليهودية مسمى أسطورياًّ لتموت الناس كل يوم باسم هذه الاسطورة المزورة، بل من أول يوم زوّرت فيه هذه التوراة.
قد تم وأد عقائد الأمة واختطاف تاريخها والعبث بحواملها الرئيسية، فلم ينج الحامل المكاني ولا الزماني ولا السكاني، ولم تنج حتى الرسوم والفنون من الخطف والسرقة والتحريف والتزوير، على يد سرّاق الزمان من أتباع التوراة، وأخيراً.. بدعم صارخ من النظام الغربي الذي تنكّر لمن علمه وأدّبه.
لقد كان السند الأكبر لهذا التزوير هو تلك الخطب التي تلقى من على المنابر ومن الفضائيات وغيرها من وسائل الأعلام للكثير من رجال الدين والمثقفين الذين أخذوا يرددون إدعاءات التوراة وبكل سطحية، لقد ساهم الكتّاب العرب –وإن حسنت النوايا– بقبولهم بالمرويات التاريخية وبالنقل عن الغربيين الذين استندوا على المستشرقين ومدونات التوراة في كتاباتهم، ساهموا في تعميق الغربة في ذاكرة أبناء الأمة، وشاركوا في نشر هذه اليهوديات (الاسرائيليات) وتأصيلها في وعي أبنائنا مما جعلهم وبكل أسف سنداًَ لهذا التزوير والتحريف.
لقد ساهم الموقف السلبي للكثير من رجال الدين في العالم الإسلامي الرافض لتنقيح التراث في طمس المنظومة المعرفية التي تضمنها تراث الأمة وتاجه القرآن الكريم، فأضحت الكثير من الحقائق العلمية التي دونت في تراثنا خفية على العالم، وليست قصة الخلق والمعصية والطوفان سوى نماذج لما يمكن أن يوصف بخسارة للبشرية جمعاء.
وختاماً ونحن نطلق هذا المشروع المصيري “عندما نطق السراة” بإعلان هذه الحقائق المرة والمسطّرة بين دفّات هذه الكتب، نتوجه إلى أبناء الأمة من مثقفين وعلماء ومفكرين ورجال دين وسياسة واقتصاد واجتماع بتحمل مسؤولياتهم التاريخية، بالالتئام وتوجيه ضربة نهائية لهذا الكم الهائل من العبث الذي تراكم عبر قرون والذي استُغفلت به الأمة وكان أحد الأسباب الرئيسية في ما آل إليه حالنا.
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105)