لماذا أصبحت قيمنا العليا من قبيل التسامح، والإنصاف، وحبّ الخير للآخرين، والنجدة، والكرامة، والسيادة على النفس، ونصرة المظلوم، وعلو الهمة، والعدل، والمساواة، وغيرها ممّا ينبغي أن نتمسّك بها كمن يقبض على إيمانه في الزمن الرديء (كالقابض على الجمر)، لماذا أصبحت تلك القيم في مجتمعاتنا العربية واهية، هشّة كقشر البيضة بحيث يتحتّم علينا التعامل معها بحذر شديد؟
ينبغي تصحيح النظرة إلى الآخر المختلف فكراً أو مذهباً أو ديناً، فيتم الاعتراف له بحقه في الوجود والمشاركة، بل والتعاطي الايجابي معه في الشأن الوطني المشترك دون تهميش أو إقصاء بسبب الاختلاف في الرأي أو المذهب أو الدين، فسفينة الوطن ينبغي أن تسع الجميع ويجب المحافظة عليها من قبل الجميع.
في العراق الحضاري، قبل عدّة آلاف من السنين، كانت أولى شرائع العدل الإنساني، مسلّة حمورابي، أعمال جلجامش، وأورنمّو الذي حرّر الأرض والعبيد من صولة رجال المعابد (شيوخ الدين)، بل حرّر الدين نفسه من التحريف والتوظيف والتلاعب، وأوركاجينا، الحاكم الصالح الذي أصدر مرسومه ضدّ كهنة الدين الفاسدين (ألا يدخل بعد هذا اليوم كاهنٌ حديقة الأمّ الفقيرة ويأخذ منها الخشب أو يستولي على ضريبة من الفاكهة)، وحرّم على الكَهنة وكبار الموظفين (أن يقتسموا فيما بينهم ما يقرّبه الناس قرباناً للربّ من أموال أو ماشية)!! حينما ينصرف (رجال دين) عن مهامهم في خدمة الناس، تهذيبهم، بعث الأمل في نفوسهم، تحفيزهم للخير، وإتمام مكارم أخلاقهم، فلابدّ من القفز إلى ساحةٍ أخرى يشغلونها، لعلّ بعضهم يأخذ من الفقيرة الخشب! أو يستولي على القرابين والنذور والحقوق والأموال! آخرون قفزوا على الدنيا، وصار ركوبهم المنبر وظيفة ومعاشاً، وأذانهم وخطبهم، مدفوعة الثمن بعدد الكلمات! آخرون زاحموا المناكب لحيازة كرسيّ سياسيّ ذي راتب سخيّ، وآخرون لهثوا خلف زعامات السياسة ووجاهات إدارة المجامع والجمعيات والأحزاب، والجامع بين الجميع، القاسمُ المشترك،…
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا”، كلمة يكاد يحفظها جلّ المسلمين العرب، حفظناها ونحن في الابتدائية، رويت في تراثنا مرة عن رسول الله(ص) ومرّة عن عليّ (ع)، ومرة عن عمر(رض)، فكأنما أريد لها أن تخترق الحجب المذهبية كلها، ربما لعظم معناها وموجز عبارتها، وحلو نسقها الذي ترتاح له أذن العربي الشغوفة في العبارة بالمعنى والقالب معا. بالأمس حينما قوي حضور الآخرة في قلوب المؤمنين، دفعهم هذا الحضور لترك العمل للدنيا، فكانوا فيها من الزاهدين، حتى تتابعت حكايات زهدهم فكانوا يدفعون أنفسهم نحو الاخشوشان خشيةً من الدنيا أن تغويهم بنعمها عن الآخرة بنعيمها، فأخذوا لا يأكلون إلا الجشب، ولا يلبسون إلا الخشن، حتى كان أحدهم يخاف أن يأتدم بإدامين، فقيل لهم: مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ اعملوا لدنياكم كأنكم تعيشون أبدًا، لما في العمل للدنيا من عمارة الأرض وازدهار أهلها. أوليست عمارة الأرض مهمة آدم وأبنائه؟ أولئك قومٌ قد ذهبوا، أو قلّوا وندروا حتى لا يكادون يذكرون إلا بـ “كان” دون بقية…
سئل “برناردْ شو” عن الأسلحة المحتملة للحرب العالمية الثالثة؟ فقال: أعلم فقط أنّ أسلحة الحرب الرابعة ستكون العصيّ والحجارة! إذن هو الإفناء البشري لبعضه، والإفناء ليس المهمّ معرفة سلاحه بل عقيدته.. والتي للأسف هي عقيدةٌ كونية عابرة، تلبس رداء الدين والسياسة والقانون أيضاً، بل إنّها الآن عقيدة الجميع إلاّ مَن رحم. فما دمنا لم ننزع فتائل القنابل الموقوتة بدواخلنا المغرية بإفناء ونفي حقوق الآخرين (المختلفين، الطوائف، الأعراق، الأقليّات..)، فإنها ستتفجّر بلحظة مواتية، متوسّلةً كلّ أدوات العنف، وستتقنّع بكلّ المبرّرات المعوجّة، القانونية، والدينية، والدوليّة، لتسويغ استحسانها. فبين الأنا والآخر، الملّة والملّة، الطائفة والطائفة، الحزب والحزب، السلطة والمعارضة، الدولة والدولة، الجار والجار، فضاءات اختلاف (واشتراك)، إذ الاختلاف مقتضى تنوّع الحياة، لكنّه إنْ تحولّ -بفعل الفيروس الشيطاني التابع لمنظومة الحسد- إلى إرادة نفي الآخر، بدل معايشته والتعاون معه والتبادل والاحترام والتشارك..، إن تحولّ نفياً، ثم إفناءً، يمحق الآخر وحقوقه الطبيعية، الوجودية، والمعنوية، والفكرية.. فقد فخّخنا أنفسنا بمؤقّت جاهز لتفجير حروب الفناء والإبادة.. وبحسب المنظور فإنّنا منحدرون وبسرعةٍ -بهذه العقيدة الفيروسية المضادّة للإخاء الإنساني-…
اختصرونا في مذاهبنا، فقيل لنا أنتم شيعة، وأنتم سنّة، فهل يمكن اختصار الشعب البحريني في أنَّه تجمع من سنة وشيعة؟ وهل نريد ذلك ونقبله؟ أليست لنا عناوين أخرى نعتزّ بها، وننتمي إليها، ونؤمن بها، ونعمل على هدي منها لنختصر هذا الاختصار المخلّ؟ ألسنا من بني الإنسان أولا؟ فتحق لنا الكرامة التي يستحقها كل بني الإنسان فوق كل انتماء؟ ألسنا عربًا نستحق أن نفخر بما يفخر به العربي من جميل تراثه، ونحزن لما يحزن له العربي من قبيح تراثه؟ ألا يحقّ لمن كان منا من أصول فارسيّة أن يفخر بأصوله الفارسيّة الموغلة في تاريخ الحضارات آلافًا مؤلفة من السنين؟ ومن كان منا من أصول إفريقية ألا يحق له أن يعتزّ بأصله الأوّل لكل البشرية؟ ويعتزّ ولو بأدواته الموسيقية البسيطة وروحه المرحة التي يحفل بها؟ ألم ننفخ معه “الصرناي” ونرقص على قرع طبوله؟ ويغني الأفراح معنا؟ أليس منا القوميون والشيوعيون والاشتراكيون والليبراليون واللا أدريّون والفوضويون والحداثيون ومن كل فكرة وملة وثقافة؟ فنحن شعب حيّ متفاعل، ولسنا فقط مقلدة فقهاء، وتبعة خطباء، وعبدة…
و أنّ أمم الأرض -وفقاً لمسار أمّتنا المفترض- استغاثت اليوم بنا، لنساعدها على تخطّي أزمات تعيشها، لم يكن ذلك مستحيلاً، ولا كبيراً علينا، ولا غريباً، لو أنّهم اليوم لجأوا إلينا لحماية حرّياتهم واستقلالهم وعزّتهم وكرامتهم لم يكن ذلك غريباً علينا ولا مستحيلاً، لو كنا كعبةً لهم في مختلف المساعدات يجدون في أرضنا العربية ملجأً آمناً ودعماً مؤازراً يوجبه علينا موقعنا في الأمم، ورسالتنا في العالم، ومسئولياتنا تجاههم، لم يكن ذلك غريباً ولا مستحيلاً، ولو أننا كعرب ومسلمين بادرنا بتحمّل مسئولياتنا العالمية على كل صعيد، وقدّمنا لهم جهدنا، قبل أن يطلب أحدٌ منا شيئاً، ومن دون مقابل، فقط لأنّ ذلك جزءٌ من ضريبة انتمائنا لأصالتنا، وديننا الذي يهدي للتي هي أقوم، لم يكن ذلك كبيراً علينا ولا مستحيلاً، أو لم يكن هذا هو الواجب الذي ألقاه القرآن على عاتقنا حين قال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ…
تعالوا نتحاور حول خلافنا بدل أن نتقاتل”، “لابد من الحوار لحل القضية”، “نؤمن بالحوار لحل المشاكل العالقة”، “يجب أن يكون الحوار شاملا لكل الأطراف”، “يجب أن تكون هناك ضمانات لنجاح الحوار”، “لابد من تحقيق بعض الشروط لإقامة الثقة قبل بدء الحوار”، “لا حوار مع القتلة”، جلبة كثيرة تثار في كل يوم منذ أن أعلن ولي العهد الدعوة إلى طاولة الحوار كسبيل للخروج من المأزق. سرعان ما ألحف كثيرون السير نحو الطاولة، جماعات ووحدانا، كل يبحث لنفسه عن مقعد يريد أن يكون لوجهه إطلالة ولو من كوّة من الصورة تدل على أنه كان موجودا، وأنه على أهبّة الاستعداد لتولي المسئولية، فتنادى من لم تنفعه فرديته إلى التكوّن جماعة، مع أنّ منهم من هو منتمٍ لجماعة في مفروض الحال، ولكنّه أراد أن يبدي استعدادا شخصيا لن يتجلى فيما لو كان تحت لواء جماعته، ومنهم من يبحث عن باب يرضي ضميره ولو بشيء يسهم فيه، ومنهم من أراد رفع العتب ليس إلا، ومنهم ومنهم… كلّ له شأن يعنيه. وتنادت الجماعات إلى الاتحاد جماعة…
حبّ العرش طبيعة بشرية، تقمّصها الإنسان تشبّهًا بالربوبية، ولا عجب؛ فلو كان هناك آلهة غير الله؛ لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا. أكثر الدنيا في هذا الزمان قد أفاقت من غيّ هذه الطبيعة؛ فاتّخذت من الديمقراطية والمشاركة أداة لكبح جماحها، فجعلت السلطان بيد الناس، يولّون عروشهم من يرتضون، وينزعون عنها من لا يرتضون، ثم قسمت السلطات أقسامًا، خشية أن يستأثر بها واحد من دون الناس؛ فيتّخذ بها عباد الله خولا، ويعمل في أموالها دولا، يستضعف طائفة منهم ويستعلي بطائفة، فجعلت لكلّ سلطة حدودًا لا تتعدّاها، وخوّلت لكلّ سلطة أن تنقض ما تبرم الأخرى، فيما لو تجاوزت الحقّ والحدّ المرسوم، وبهذا اطمأنت – على حذر وخشية – من أن تتغوّل إحدى السلطات بما لم يخوّلها الناس، ذلك أنها وجدت بعد طول عناء أنّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. لم تجد البشرية علاجا للديكتاتورية إلا الديمقراطية، وللاستبداد إلا الحرّية والتعدّدية، ولم تجد جهة هي أكثر اقترابا لتحقيق ذلك من وضع السلطة في يد الجمهور، ثم هو يخول من بينه من يطمع في أمانتهم وكفاءتهم،…
هل نحن نعادي المخالفين لنا لأنهم ضدّ الفضيلة؟ أو ضد الإيمان والحق؟ أم لأنهم ضدنا كجماعات وأشخاص؟ أو لأنهم مخطئون لأن مصالحهم وإراداتهم تناقض مصالحنا وإرادتنا؟ المعلن دائما هو الأول، والحقيقة دائما في الثاني، اللهم إلا ما ندر، و”اللهم إلا ما ندر” هذه لولا مخافة الظلم لما قلناها، لأنها مع كل أسف مدخل المبطلين لبوابة المحقين، حيث يزعم الجميع أنهم من هؤلاء الندرة، عجبا! كيف للندرة أن تكون الكثرة؟ تصنف أمريكا الدول إلى محورين محور للخير ومحور للشر، أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وكلنا يعلم أن أصحاب الشمال لا يحتاجون لكي يصبحوا من أصحاب اليمن إلى توبة، اللهم سوى التسليم والطاعة لما تريده أمريكا منهم، ثم لا يهم بعدها أن يغيروا شرهم ولا خيرهم، فأصدقاؤها في محور الخير سجونهم مليئة بالمعارضين، والمخطوفون من الناس تحت حكمهم لا يُعلم أأحياء هم أم أموات بعشرات الألوف، والديمقراطية فيهم إما معدومة أو ممسوخة، والفساد في إدارتهم فوّاح، وحرية التعبير مكممة بالقانون، ولكن هذا لا يهم فالخير والشر هو في الموافقة أو المعارضة: الأخيار أصحاب…