التاريخ يؤكد بأن العرب لم ينكروا جميل صنع الغرب، إذ لم يكن للغرب حسن صنع معهم أبداً، والحقيقة أن الغرب هو الذي جحد جميل الصنع وتنّكر لمن علّمه وأدّبه، ورفع منظومة قيمه وفنه، فالعرب الأساتذة قد حاولوا بصدق وإن لم تنجح تلك المحاولات أن يُعلّموا الشعوب الأوروبية التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان.
بعض المسلمات الدينيّة والتاريخيّة السائدة في يومنا هي نتاج عمليات تزوير طويلة ودقيقة، ولدقتها وإحكامها استطاعت أن تفرض نفسها كحقائق ثابتة في الوعي الإنساني، وبعضها أصبح القانون الذي يدار به عالم اليوم، وتصاغ به نظريات التاريخ والاجتماع والسياسة وتؤسس عليه الدول، وإسرائيل مثل صارخ على هذا التحريف.
تفنن اليهود في التزوير، وتوارثوه جيلاً بعد جيل، وجهدوا جهدهم لأنَّ يبقى تزويرهم وكذبهم على الله ورسله منطلياً على النّاس فأضفوا على ما جنوا هالة التقديس فجعلوا تاريخهم جزءاً من دينهم وشريعتهم فبدا هذا التاريخ للكثيرين وكأنَّه موحى بأدق التفاصيل من الله إليهم عبر الأنبياء والرسل، فأصبح ديناً لا مجال إلا التسليم به وتصديقه وإن تعارض مع العقل والفطرة والأدلة والبراهين العلميّة.
القرآن قد بيَّن أنّ الملأ الأعلى اختصموا، وأن اختيار الخليفة الإنسانيّ من أولئك البشر الهمج السابقين الذين تطوّروا سلالياً عبر عشرات الآلاف من السنين، ولمْ يُثبت القرآن أيّ اختصام واحتجاجٍ لهم حين خلق البشر الذي ظلّ ردحاً يسكن الكهوف ويسفك دماء بعضه ويُفسد لا واعياً.
لقد وجدته!.. لقد عرفت كيف كانوا يخنقون الحقيقة أمام أعيننا تمهيداً لاستبدالها بالوهم، فما بعد النور إلا الظلام. عرفت كيف كانوا يخطفون تراثنا ثم يكتبون لنا الظلام بنفس توراتية ضبابية ويقولون لنا (هذا من عند الله) ليشتروا به ثمناً بخساً.عرفت كيف فرقوا بيننا وبين أجدادنا وكيف حالوا بيننا وبين مخزون تراكمات علومنا السماوية النقية التي جاء بها أجدادنا من أنبياء ومرسلين منذ أقدم العصور.
ترى كيف استطاع أناس مشتتون في أقطار الأرض أن يجتمعوا ويوحّدوا جهودهم، ويتلاقوا بآمالهم؛ لينجحوا في كسر طوق الفرقة والغربة، ويقيموا كياناً موحّداً ولو إلى حين سمّوه “إسرائيل” ؟ ثمّ كيف تمكّن هؤلاء المشرذمون أن يتحوّلوا بضمائرهم ومشاعرهم نحو ما يسمونه ” أرض الميعاد ” لتغدو هذه المقولة وأمثالها ثقافة عامّة مقدّسة تتفاعل بقوة وحماس داخلهم ؟
” الراقص مع الذئاب ” هو اللقب الذي أطلقه الهنود الحمر على الجندي الذي كان يحرس التخوم في الفيلم الأمريكي الذي يحمل الاسم نفسه. وهذه التسمية تعكس أسلوباً تربويّا عندهم، حيث يعتمد على الحث لإنجاز عمل مميز يكتسب به صاحبه درجة من الشرف الاجتماعي.
جُرّد من لقب البطولة الذي ناله بجدارة، وعندما استبدل اسمه الذي كان يعتبره عنوان عبوديته باسم يمنحه الشعور بالعزّة والكرامة والحريّة، أبوا إلاّ أن ينادوه باسمه القديم لأكثر من عشر سنوات إمعاناً في الإساءة إليه وتذكيره بأيام الذل والاستعباد، ثم حُكم عليه بالسجن بتهمة اللاوطنية، كلّ هذا حدث لأنه اتّخذ قراراً شجاعاً برفضه الذهاب للقتال في فيتنام معلّلاً رفضه بمقولته المنطقيّة والجريئة: “لماذا يطلبون منّي أن أسافر أكثر من عشرة آلاف ميل تاركاً وطني لأجل أن ألقي القنابل الحارقة وأطلق الرصاص على الأبرياء في فيتنام، بينما ما يسمى بالزنوج هنا يعاملون كالكلاب ويُستنكر عليهم الحصول على أدنى حقوقهم الإنسانية، لا .. لن أسافر لأساهم في قتل وحرق أمة فقيرة أخرى لأجل أن تستمر هيمنة هؤلاء البيض أسياد العبيد! إن أعداءنا الحقيقيين يعيشون هنا، فأنا لن أجلب العار لديني، ولا لشعبي، بأن أجعل من نفسي أداة لاستعباد الذين يحاربون من أجل العدالة والحرية والمساواة، ولا أخاف أن أخسر شيئاً إذا تمسكت بمبادئي، سوى أنني سأُسجن، لم يأتوا بجديد، فنحن في سجن…
عدنان وقحطان عند النسابين هما أبوا العرب، ومنهما يفرّعون علوًّاً ونزولاً، وليس لك أن تسألهم ما الدليل؟ فالنسابة كالأطباء يجب عليك أن تثق في تشخيصهم لمجرد اختصاصهم، بل قل كالمنجمين، بل هم أكثر حصانة، فالمنجم والطبيب قد يكذبه الواقع والحدث، أم النسابة فهم يتحدثون عمن لا يطال منهم تصديقًا ولا تكذيبًا. هم يقولون قحطان والد يعرب ومنه يشجب ثم سبأ فكهلان وهكذا يمكنك أن تصل إلى نسب جارك الدوسري والكعبي والمرّي فهم من نسل قحطان، ويقولون عدنان والد معدٍ ثم نزار ثم مضر ومنه يمكنك أن تصل إلى جارك الموسوي والعازمي وغيره من أبناء عدنان. هذه تفريعات وتشجيرات لها “حنّة ورنّة” ، في بلدٍ يعتز بتأصيل النسب كالجزيرة العربيّة، وبها تتقابل القبائل، وتُنشأ الأحلاف أحلاف الدم، وتُتَحمل الديات، وتتكافأ الزيجات، وتُحرز مراتب المشيخة، وتُفرز التراتبات الاجتماعية الطبقية، وتُرسم مراسيم اللياقة (الاتكيت)، بدءًا بمن رتبة تقبيل الأيدي، صعوداً إلى تقبيل الأكتاف، فتقبيل الخشوم، ثم خشم بخشم إن كنت من طبقة متكافئة… ولكن لماذا ظل عدنان وقحطان هما أشهر أبوين للعرب؟ لدرجة…
للأمم أعياد تمجّدها وتفرح فيها وتمارس فيها ما يعبّر عن ابتهاجها بها، وأصل فكرة وجود عيد أو أعياد في الحياة حاجة ملحّة للأمم، لسبب حاجة الإنسان للترويح عن نفسه، وحاجته الماسّة إلى تجديد قواه وتنشيط جانبه النفسي، والتخلّص من أثقالٍ وأخطاء وأتعابٍ تراكمت على بعضها، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الإنسان مخلوق مختار مجتهد، والعيد فرصة للتعبير عن السرور بالنجاح والفوز بعد شوط من العمل والاجتهاد، وإلا كان العيد وقتاً يراجع فيه الإنسان خياراته واجتهاده وعمله، فيوم العيد جامع، فهو يوم للسرور، ويوم للراحة، ويوم للأنس بالأهل والإخوان والأصدقاء، ويوم للمراجعة، ويوم للاستجمام النفسي والبدني، وربما سمي يوم الجمعة بهذا الاسم لأنّه بالفعل جامع لعدّة أهداف، وهو العيد الأسبوعي الذي عرفه الإنسان منذ دهره الأول. وهذا التاريخ الطويل العريض الذي عشناه نحن بني آدم، والذي ما نزال نواصل تسجيله على صفحات هذا الوجود قد اشتمل على العديد من الأعياد، وهي متلونة بألوان شتى، فمنها ما يتصل بالاستقلال الذي تحقّقه الشعوب والأمم بانتصارهم على أعدائهم المحتلين الغاصبين لأراضيهم، ومنها ما يتصل بانتصارات…