من لا يعشق الفضيلة والإحسان والخُلق والجمال والعدل!؟ هي معشوقة لكلّ إنسان، لكن البعض القليل هو من يسعى جادا في الوصول إليها، وتكون محطّ رحلته في دنياه، مهيمنة على كلّ اهتماماته، أما عند الآخرين فتبقى مجرد أمنيات لا ترقى إلى مرحلة الرجاء، ولكن مهما تكن إرادة أكثر الناس باهتة في سعيها للإصلاح الحقيقي؛ إلا أنّ في ذهنية الشعوب كافة وبمختلف اعتقاداتهم شعورا يتنامى بأنّ قيم المجتمعات باتت مهددة وفي خطر، وبإزاء هذا الشعور تزداد حاجتها وتطلعها وترقبها للمصلح المنتظرـ بغض النظر عن تحديد هوية الشخص المنقذ ـ ليعيد للإنسان قيمه الضائعة في بيئات تحتضن الصلاح والخير والعدل ويعمّ السلام، وتمحى كلّ بؤر الفساد والشر والظلم، وتنتهي الحروب والدمار والجوع والفقر. إنّ الإيمان بحتمية ظهور المصلح العدل للعالم بأسره لهي فكرة مركوزة متجذرة منذ القديم، نجدها حتى «في كتب ديانات المصريين(عرب وادي النيل) والصينيين والمغول والبوذيين والمجوس والهنود والأحباش فضلاً عن الديانات الكبرى الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلامية»1. ورغم التشكيك في التصورات الدينية الميتافيزيقية، إلا أنّ الفكرة لم تنقطع عن الإيمان بها…
من أسرار اللغة العربية إمكانية العودة بكثير من معاني كلماتها للأصل الثنائي المضاعف، فللبحث عن معنى كلمة ما، يمكن الوقوع على السر الزائد عن معناها المتداول بالبحث في الكلمات التي تشترك معها في الأصل الثنائي المضاعف لها، كما يمكن تعزيز فهم المعنى بالبحث في مقلوبه. فالأصل الثنائي المضاعف لكلمة نبي مثلا هو نَبّ، ومقلوبها بَنّ، وباستقراء مجمل الكلمات المشتركة في هذا الأصل يمكن استنتاج المعنى الأصل المشترك مما يعين على تحديد أقرب المعاني صوابا في زحمة تفنن أصحاب العبارة في استخدامها. فالأصل نبّ يدل على حالة خروج وانبعاث من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو قل من عالم المستور إلى عالم المكشوف، من الخفاء إلى العلن، فهناك دائما حركة من الداخل نحو الخارج، فتحت هذا الأصل نجد الكلمات التالية: نبت، نبث، نبج، نبح، نبخ، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبص، نبض، نبط، نبع، نبغ، نبق، نبك، نبل، نبه، نبو، نبأ. فالنبت هو خروج النبات من عالم ما تحت الثرى إلى عالم ما فوق الثرى، من غيب ما تحت الأرض إلى علن…
ثمّة تناقض واضح بينما هو سائد في أنماط التربية التي نتبعها في المجتمعات العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي تشدّد فيه الموروثات الدينية على فرادة العقل وأهميّة التفكير “ما خلقت خلقاً أحسن منك، بك أثيب وبك أعاقب” نجد الكثير من الممارسات القمعية المناقضة لهذه التعاليم، سواءً تنزّلت قرآنا يتلى كما في قوله “أفلا يتدبرون” و”أفلا يعقلون” أو مأثوراً من الحديث عن النبي “ص” نعجز عن إحصائها عدداً فضلاً عن ذكرها هنا. إنّ من جملة ما قلنا به في حقائق مشروع السراة، حين عَمِلنا بدعوة القرآن ودعوة رسول الله محمد بن عبدالله “ص” في وجوب إعمال العقل ورفض موقع الإمّعات، وبعد أن حرّرنا عقولنا من فهم الرجال -مع إجلالنا وتقديرنا لكلّ من بذل جهداً فكريّاً لفهم آيات الكتاب المبين المعاصرين منهم والسابقين- انطلقنا إلى حيث المصدر الصافي”القرآن الكريم” حيث المعرفة والعلم، فوجدنا أنّ هناك حقيقة مغيّبة حول الخلق ذكرها القرآن، تضافرت على تفصيل مضمونها مرويّات التراث، فقد رأينا القرآن يقول “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ…
هل كان بنو إسرائيل طارئين على جزيرة العرب من الشام؟ انتظارا؛ كما يقول المؤرخون العرب، أو هروبا من غزاة فلسطين كما يقول غيرهم، أم إنهم من سكانها الأصليين؟ وأنّ إبراهيم وبنيه كانوا من أبناء الجزيرة كما يقول آخرون، هاتان نظريتان في تفسير وجود بني إسرائيل في الجزيرة العربية. قد لا تكون الأدلة التاريخية حاسمة بين الفريقين، فالتاريخ حينما يكون فعل غائبين لا شاهد منهم أو عليهم، يسهل القول فيه بغير حرج، ويمكّن من التزوير عليهم من دون ردّ، خاصة إذا ما أجمعت قوى نافذة على التواطؤ في الكذب لمصالح سياسية كبرى، وتفاديا لهذا لجأ علم التاريخ لعلم الآثار وللمخطوطات القديمة يستنطق دلالاتها، فهي أوثق من القول لا ندري مدى صدقه؛ إلا ثقة في قائله، ومع هذا فقد تكون الآثار والوثائق أوغل في تعميق الكذبة التاريخية، لأنها تعطيها طابعا علميا بينما هي مجرد أكذوبة، فيزعم عالم الآثار المروّج للأكذوبة أن هذا حجر عمره كذا وأن ترجمة هذا السند هي كذا، متعمّدا تحريف الكلم عن موضعه لغايات دينية وسياسية حاضرة. من هنا…
في رسم كاريكاتيري حيث يتحلّق مجموعة من القادة العرب حول بعضهم لحلّ “كلمات متقاطعة” والإجابة على سؤال يطرحه كبيرهم: “مدينة عربية مقدسة تتعرّض للتهويد، وتبدأ بحرف القاف؟” .. فيسارع أوّلهم بالإجابة ليحظى بشرف الفوز: “قرقيزيا”، وتبوء محاولته بالفشل، فيحاول الثاني: “قبرص”، والثالث “قيروان”، والرابع “قادش”، والخامس يحكّ رأسه متحيّراً ومتأنّياً لعلّه يقع على الإجابة الصحيحة، ولكن دون جدوى لتبقى المربّعات الثلاث لاسم هذه المدينة العربية المقدّسة فارغة تنتظر أحد فطاحل التاريخ المعاصرين للإجابة عليها. طرفة تبدو سمجة، تُضحِك لسخفها، ولكنها تغيظ لواقعيتها بالنظر إلى حجم ما يقع على المدينة المقدسة من مصائب وما يقابله من لامبالاة أو ردود فعل فاترة من قبل المؤسسة الرسمية والجهات الشعبية العربية بما لا يتناسب مع الخطر المحدق من زيادة التعنّت والعناد الإسرائيلي للمضي قدماً نحو تهويد القدس وتغيير هويّتها وطرد المقدسيين من بيوتهم أو هدمها على رؤوسهم. فبينما يعلن نتنياهو أنّ “القدس” عاصمتهم الأبدية، ويرفض تسميتها “مستوطنة” ، ويرى أنها كانت تُبنى من قبل اليهود قبل ثلاثة آلاف عام وإنّ ما يقومون…
يؤكد الدكتور فاضل الربيعي (مواليد بغداد 1952م) أن معركتنا الرئيسية هي ضد المخيال الاستشراقي والقراءة الغربيّة الخياليّة، وهدفها تأسيس قراءة عربيّة إسلاميّة جديدة تقوم على استخدام معطيات العلم والتاريخ والثقافة بشكل صحيح. ويعتقد الربيعي أن التلفيق الذي قام به الاستشراق هو أخطر بكثير مما يبدو لنا تزويراً أو تحريفًا بالمعنى الديني القديم. ويكرر الرغبة في مساجلة المخيال الاستشراقي الغربي ومقاومته انطلاقا من النقاش حول المعطيات العلمية الأثرية والتاريخية. والدكتور فاضل الربيعي كما يُعرِّف نفسه هو “باحثٌ عن طريقةٍ لتصحيح التاريخ القديم، ومن الباحثين الذين يجذبهم حب المعرفة للغوص في أعماق ما يبدو شائكاً ومجهولاً ومعقّدًا”. وتُعد أطروحته “فلسطين المتخيلة” من أهم المؤلفات التي قدّم فيها الربيعي مراجعات للمسلّم به في كتب التاريخ، والتي نفى فيها أن يكون السبي البابلي لليهود قد حدث في فلسطين، أو أن الملك داوود حارب الفلسطينيين. ويواصل الباحث في نسفه للخاطئ والمغلوط من الموروث التاريخي: “سفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط، والحقيقة التي لا مناص من التمعن فيها اليوم: إنّ القبائل اليهودية اليمنية العائدة من الأسر…
يمكن القول أن معاوية هو إمام السياسة العربية، فقواعده وسياساته ظلت خطة متبعة لكل من أتى بعده من موافقين ومن مخالفين، محبين له أو مبغضين، لم يتخلف عنها أحد أبدا إلا ما قيل عن عمر بن عبد العزيز الذي خالف روح معاوية فكان أحد ضحاياها. وصف معاوية بالداهية فكانت لنا من دهائه دواه لما تزل فينا مؤبدة، أول هذه الدواهي هي نظام التوريث للخلافة ، فمهما قيل من فوضى تطبيق المسلمين للشورى في عهد الخلفاء الراشدين إلا أن السلطان للأمة في تولية أو عزل خليفتها بقي مبدأ معترفا به عند السلطة والرعية، وهذا هو أعظم مبادئ الشورى أهمية، إلا أنه ومنذ معاوية تحولت الخلافة إلى التوريث المبدأ الذي لم يخالفه فيه أحد من بعده من محبيه ومن مبغضيه، وهو لا يزال مستمرا من بعده حتى أصبح هو السنة، وأصبح حق الأمة في تولية من تختار وعزله هو البدعة لا في السياسة فحسب بل في الفقه أيضا. وثاني هذه الدواهي هو تصحيح الخلافة بالانقلاب والاغتصاب حتى على من كان موليا على…
تدهشني حكمة الأولين وبلاغتهم في صياغة عصارة تجاربهم في قالب محكم، وقدرتهم على التعبير عن معانٍ عميقة وكبيرة في كلمات قليلة، بعضها مسجوع، وبعضها الآخر نُظم في أبيات شعرية، فيها الوعظ والحكمة، ومنها الساخر والمتهكّم، بالعامّية والفصحى، كلمات تخطّت الزمن فوصلت إلينا بصورة حكم وأمثال شعبية تسعفنا بلاغتها إذا أعيتنا الحيلة للتعبير عما يجول بخاطرنا بكلماتنا الخاصة، ولا يكاد يخلو يومنا من استدعاء لتلك الكلمات في حوار، أو نقاش، أو مناكفة عابرة، أو حديث مع النفس. ويدهشني أكثر إذا وجدت نفس المعاني بذات الإيجاز تتكرّر في حكم الأمم المختلفة صيغت بلهجاتهم كالسريانية، والعربية الفصحى، والفارسية، والصينية، واليونانية، وغيرها وكأنها جميعاً تربّت في كنف مربٍّ واحد، ونهلت من نفس النبع، فهناك بعض الأمثال والحكم السومرية التي قيلت قبل أكثر من ألفين وخمسمائة سنة ولها ما يقابلها في ثقافتنا الإسلامية، كقولهم مثلاً: “أيكون حمل بلا معاشرة”، أو “هل تحدث سمنة بلا أكل”، ونحن نقول: “لا يوجد دخان بلا نار” للتعبير عن وجود أساس لما ينتشر من إشاعات رغم محاولة سوق الحجج لإثبات…
“ذاكرتنا البشريّة ليستْ رقاقةَ حاسوبٍ قابلة للمحو ولإعادة البرمجة”.. “لا يمكننا نسيان الذي نُحبّ”.. شعارُ فيلمٍ أُطلق عام 2004 وترشّح لستّ جوائز.. اسمُه (المنسي المُغيَّب/The forgotten)، يحكي عن قوى قاهرة تتحكّم بمصائر البشر.. وتختبر قدرة أعمق مشاعرهم على النسيان، فتُجري تجربتها البشعة على أمّ يخطفون طفلها ويُغيّبونه، يُعرّضونها للصدمات ومحاولات الإنساء، يُبدّلون مواقعها الحياتيّة والتاريخية المألوفة، يُعيدون فبركة صوَر ألبوماتها، يمحون ذاكرتها وكلّ الدلالات، ويصطنعون لها تاريخاً آخر، يجعلون حتّى الصديق والجار والأهل والمحيط يستأصلون أيّ استذكارٍ لديهم وعلاقةٍ عن ابنها “المُغيَّب”.. ولكأنّه ما وُجِد قطّ.. لدرجة استهزائهم وتشكيكهم بعقلها! الأمُّ المفجوعة ترفض نسف ذاكرتها الأعمق، ترفض خيانة مشاعر قلبها، تبقى متيقّنةً أنّه كان لها هنا ولد، يحتوشونها بالأطباء النفسيّين، يُثبتون لها بالتشخيص الطبيّ وبالأدلّة العلميّة والميدانيّة استحالة وجوده.. لكنّها تُصرّ بإعجازٍ على اعتقادها ولو كذّبها وخذلها عالَمُها كلّه.. أقاربُهم بأباعدهم، فتقوم بالمستحيل لإثبات وجوده، ولاسترجاع حبيبها.. وأخيراً بالتضحيات الجسام تنجح.. وتُبطل مشروع محو معشوقها من القلب، ومسحه من الذاكرة.. قدّمتُ خلاصةَ هذا الفيلم الرائع.. لا للتسلية، بل للتدليل على…
“يُقدَّم للمستوطن قبعة فيها قطع ورقيّة ويُطلب منه أن يسحب رقماً يمثل هذا الرقم قطعة أرض معيّنة فتصبح ملكه فوراً، يهاجر إلى الجزائر يجد عائلة جزائرية مستقرّة على تلك الأرض فيطردها ويسكن مكانها!” كان هذا روتيناً طبيعياً إبّان الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962)، بالإضافة إلى الإبادات الجماعية، والتعذيب، والاغتصاب، والتعدّي على حرمة المقابر والمساجد، وعلى الهوية حيث يُذكر أن الألقاب الجزائرية قبل الاستعمار الفرنسي كانت ثلاثية التركيب ولكن بعد مرور خمسين عاماً من الاستعمار أصدروا قانوناً ينصّ على استبدال ألقاب الجزائريين الثلاثية وتعويضها بألقاب لا ترتبط بالنسب لطمس الهوية الجزائرية وتفكيك نظام الأسرة والقبيلة لتسهيل الاستيلاء على الأراضي والتعامل مع الفرد كعنصر معزول، ولتغييب الهوية العربية والإسلامية من خلال تغيير الأسماء ذات الدلالة الدينية وتعويضها بهوية هجينة وبأسماء مشينة ونابية، بعضها نسبة لأعضاء الجسم، أو العاهات الجسدية، أو نسبة لأدوات الفلاحة وللحشرات والملابس ولأدوات الطهي والألوان دون أن يحكم ذلك أي منطق سوى تحطيم معنويات الجزائريين. ومن الأمثلة الحية على تلك الألقاب السيئة التي تحملها بعض العائلات الجزائرية لقب “حمار” و”بوذيل”…