(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًا مُبِينًا) (الإسراء:53) لغةً؛ نَزَغَ (النون والزاء والغين) كلمةٌ تدلُّ على إفسادٍ بين اثنين، ونَزَغَ بينَ القوم: أفسَدَ ذاتَ بَيْنِهم، أو أن يُلْقِي في قلب المرء ما يُفْسِدُه على أَصحابه، والنَّزْغُ شبه الوَخْز والطعْن. يبين الله سبحانه في هذه الآية بأنّ مصدر الإفساد والقطيعة بين الإنسان وأخيه الإنسان هو الشيطان لا غير، وأنّه مهما أساء الإنسان لأخيه إلا أنّ الشيطان هو العدو الفعلي والحقيقي والتاريخي وليس الإنسان، فهي دعوة للإنسان بأن يعرف عدوّه الحقيقي وينشغل بتحصين نفسه منه، وأن لا ينشغل بسراب العداوات الوهمية المصطنعة التي تشغله عن عدوّه الحقيقي. لذلك جعل الله لنا (.. فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)، فقد عرف يوسف (ع) عدوّه الحقيقي منذ الرؤية التي رآها في المنام إلى أن تمكّن في “مصر”، فلم يشغل نفسه في عداوات شخصية مع أحد حتّى مع أكثر المسيئين إليه وهم أخوته، فبعد رحلة معاناة طويلة ومريرة (40 عاماً) بسبب سلوك وأفعال الأخوة، وبعد الضرب والرمي…
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201) تتحدث الآيات القرآنية الكريمة عمومًا عن أفعال شهيرة يقوم بها الشيطان عبر منظومته المتعددة.. تقود إلى الغواية والفتنة والإضلال عن طريق الحق والزيغ عنه، منظومة الشيطان تبث موجات مؤثّرة فقط على المستوى الغزائزي، تحرّك شهوات النفس ونزعاتها وأهوائها، كالخوف والجشع والعجلة والغرور والجزع وغيرها، فتطفح ويعلو أوارها، وتأخذ صاحبها إلى مسالك الشرّ والنزغ، والتوغّل في السوء، والنأي عن الخير والمعروف. مسئولية الإنسان أن يوفّر لنفسه الحصانة، ويضع المرشحات، ويثبّت القواعد، التي تحميه من الإنجرار إلى شراك الشيطان، والاستجابة لدعواته، فإن فعل فسيكون من “الذين اتقوا”، أي الحريصين عملا على وقاية أنفسهم من الشرور، بتسلّحهم بالسلاح الفتّاك لمحاربة المسّ الشيطاني وهي: التقوى، والتي تقود إلى التذكر! والتذكّر هو قدرة الإنسان أن يكون حاضرًا في الموقف، واعيًا بتفاصيله، الأمر الذي يمكّنه من السيطرة على شرور النفس، ثم استدعاء العقل، واستحضار التجارب المناسبة للحظته ليعمل بها، فالذكر مرتبط بالعقل والاتزان والسمو، بعكس النسيان الذي يعبّر عن سيطرة للنفس. ولكن أداء…
“وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” [مريم : 39] لم تنفك الآيات القرآنية تؤكد أنّ الرسل إنّما جاؤوا مبشّرين ومنذرين، ويأتي ضمن كثيرٍ مما أنْذَروا به الناس “يوم الحسرة” وهو بحسبِ التفسير يوم القيامة. والمفهوم من الآية أنّه اليوم المحدّد الذي يأتي بانقضاء الأعمال وانتهاء مهلَتِها، ويكون الإنسان قبله غافلاً عن هذا الأجل ومهمِلاً الاستعداد له! فلكلّ مهلةٍ حد، ثم تنقضي الأمور، وتُحسَم النهايات ولا ينفع الندم بعدها، وهذا ما سيحدث يوم القيامة إذ ستُغلق الملفات ويصير مستحيلاً بعدها العودة لإصلاح العمل أو إعادة التزوّد. لكن هل من الممكن أن يمر “يوم حسرة” في حياة أيٍّ منا قبل مماته؟! هل من الممكن أن يكون يوم الحسرة مثلاً هو: اليوم الذي تفقد فيه أحد أحبتك أو فرداً من أهلك وقد كنت مقصّراً وغافلاً عن أداء حقه، فتنغلق أمامك فرصة تقوية هذه العلاقة أو إصلاحها! أو اليوم الذي تخسرُ فيه كمال صحتك فتفقدُ حاسةً من حواسك أو عضواً من جسدك فيحول ذلك دون القيام بالكثيرِ من…
“وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ، … ، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ” النساء 78-79 يبدو أنّ هناك تناقضاً بين قوله تعالى: “قل كلّ من عند الله”، و”ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك”، ولحلّ هذا الإشكال علينا أن نقرأ الآية في سياقها وننتبه لدقّة الصياغة القرآنية لكي لا يفوتنا الفرق الدقيق بين لفظي “من عند الله” و”من الله“، ومن هو القائل في كلتا الحالتين. تبدأ الآية الأولى بخطاب موجّه إلى ضعاف الإيمان، وتصف حالهم، حيث أنّهم كانوا يذهبون للحرب مع الرسول (ص) لأجل مصلحة ومنفعة شخصية، فهؤلاء إذا أُعطوا رضوا وقالوا هذه الحسنة من عند الله، بينما إذا هُزموا أو خسروا فإنهم يلومون النبي(ص) ويقولون له أنّ ما أصابهم من سوء وشرّ هو من عند النبي(ص)!! وهذا غير صحيح، فيرد عليهم مصحّحا لمفاهيمهم، ومقوما لنفوسهم بقوله: أنّ كلّ شيء (من عند) الله، بمعنى…
“قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” (الأعرف:12) في الحوار الدائر بين “الرب” والملائكة ودعوته إياهم للسجود لآدم بعد إعادة تخليقه، كان وجه اعتراض إبليس على السجود لآدم هو “الخيريّة” أو “الأفضليّة” للعنصر المخلوق منه كليهما! فهو الذي حدّد أنّ النار أفضل وأرقى من عنصر التراب أو الطين، مع أنّ “خلقته من نار” و”خلقة آدم من طين” ليستمن فعله هو، فكيف حدّد أنّ مادّته خيرٌ من مادةِ الآخر؟ لقد أراد بمنطقِهِ الأعوج أن يفوّت دور الباطن وقيمته، ويرجّح الظاهر، مع أنّ التمايز الحقيقي لا يكون إلا في المساحات التي يملك فيها كلٌّ منهما خياراته وإرادته، ففيها وحدها يصنع أيّ منهما مقامه، ويحدّد مستوى رقيّه، وأفضليّته، لا بأيِّ شيءٍ آخر.هذه المسألة هي نواة نظرية التمييز العنصري! وبذلك يكون إبليس هو مؤسّس ورائد هذه النظرية بلا منازع! علماً بأن الملائكة بناءً على قياساته، أفضل منه، فهي مخلوقةٌ من “نور” وهو عنصرٌ أكثر رقيّاً من النار! ولكنها لم تعترض على السجود لآدم المخلوق من “الطين”. وامتد أثرُ هذا التمييز “العنصري”…
“أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ” –العنكبوت 2 من يتخذ الله سبيلاً، ويدرك الغاية من وجوده، ويوجّه بوصلته باتجاه ما ينفع الإنسانية، ويختار أن يقرن حياته برسالةٍ عنوانها الخير والصلاح والمحبة، فإنّ الشوك حتماً سيلاقيه! فما أصعبه دربَ الصالحين، وما أوجعه طريق الحق، فكلنا يعلم بقلة سالكيه، ونعلم كذلك من هم الذين بذلوا مهجهم في هذا الطريق وأين صاروا وكيف حققوا مبتغاهم. إنّنا مأخوذون بالفتن، لا بد أن يُختبر إيماننا، هي سنَة الله في خلقه، تنتظرنا مراتب ودرجات متاحة فقط لمن يستحقها، والحكمة تقتضي أنّ كل من يتحمّل مسؤولية تغيير أو إصلاح، فإنّه سيواجه الصعاب والمحن، وهنا تبدأ معركته الحقيقية، فصراع الخير والشر والحق والباطل، يبدأ من الداخل أي من النفس! صراع يجرّ صاحبه لخوض معركة كرّ وفرّ، شطبٍ وإضافة، أبطالها النفس الأمّارة بالسوء مقابل الضمير الحي الذي ما إن تنساه حتى يبدأ بالاضمحلال وصولاً لمرحلة العطب! الفتن دائمة، لن تتوقف أبداً، لأنّ المراتب والدرجات كذلك لا حدّ لها، ولا مفرّ لنا إلا بمواجهتها، فإمّا الانجرار…
“يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ.. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ” (الحديد:12-13). مشاهد الآخرة هي انعكاس لمشاهد الدنيا، هي تجلّي لصورتها الحقيقية الكاملة، بلا حُجب ولا سواتر، هناك تظهر الأشياء كما هي، فمن صنع لنفسه النور في الدنيا واستضاء به، فسيلازمه “ذلك النور” إلى هناك. وللنور مصدران، الأول “بين أيديهم”، مصدره خارجي مقتبس من الخارج كالاقتداء بالصالحين، والاهتداء بالتجارب والتجاوب مع نداءات الخير.. الخ، والثاني “بأيمانهم”، مصدره داخلي يشعّ بمقدار صلاح وصدق أنفسهم. فالنور الذي اكتسبوه في الدنيا سيتجلّى لهم في الآخرة، بذات الدرجة ونفس القوة. هذا حال المؤمنين، أمّا الآخرون الذين يمشون مع المؤمنين في الظاهر فقط (المنافقون نموذج كما في الآية)، فإنّه قد ينالهم نصيب من الأنوار الخارجية، يفرحون بها، وقد تنير لهم الدرب لمسافات معينة، لكنهم سيتفاجؤون بدخولهم لوحدهم في منعطفات شديدة الظلمة، حيث لا مجال للانتفاع بأنوار غيرهم، وليس بإمكان أحد…
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف 143). هناك عدة تساؤلات يمكن طرحها بشأن الآية الكريمة.. هل من المعقول أن يطلب النبي موسى(ع) من الله سبحانه أن يَراه جهرة كما فعل قومه تكبراً وغروراً؟ {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} فكان هذا جزاءهم! أليس “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ” تساوي ” لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً”؟ ولو كان طلبه أن ”يرى الله“ سبحانه، لما اختلف عن قومه الذين أخذتهم الصاعقة! وهل كان من يكلّم موسى هو الله سبحانه وتعالى مباشرة؟ أليس في ذلك تعارض مع الآية الكريمة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} التي تحصر وسائل تكليم الله سبحانه…
“أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” [التوبة: 109]. فما معنى التأسيس على التقوى؟ التقوى هي كفّ الأذى، واتّقاء شرور النفوس الداخلية والخارجية، واتّقاء المعصية والخطأ والاستفزاز وغياب الوعي وانتهاك المبادئ والقيم والأخلاق! التقوى هي اتّقاء ذلك كله.. فيجدك الله في المحصِّلة حيث أمَرَك، ولا يجدك حيث نهاك! والإنسان –وعى أم لم يعِ- عليه أن يؤسّس كيانه الذي سيقضي عمره فيه، فإن كان واعياً منتبهاً لعواقب الأمور فإنّه سيولى اهتماماً مركّزا لهذا البنيان، من حيث المواد والجمال، فأُسُس أيِّ بنيان تلك التي تقوم على التقوى؟ إنّها أسس بناء العلاقات.. فيبني علاقات مقصدها التعاون على فعل المعروف، محصّنةً من الشرور بكفاية كلّ طرف للآخر من أذاه، ومن مصاديقها الالتزام بالصدق، والإصلاح بين الناس، والحرص على الأخّوة، وتشكيل الجماعات الفاعلة، ففي كل ذلك وغيره تنمية للخيرات ووقاية من الشرور وكفٌّ لأذى الطرفين. إنّها أسس بناء الأعمال والنوايا، فلا يرجو العامل من أيّ…
“أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” (1) النحل. أتى أمر الله: أي قد صَدَر الأمر الإلهي، والكلام موجّه للمشركين، الذين ما برحوا يتبجّحون بطلب العذاب، إمّا مكذّبين أو غير مبالين ومغترين بقوتهم ومنعتهم، فإن كانوا مكذّبين فجوابهم بأنّ أمر الله قد أتى، أي قد صَدَر الأمر وقضي القضاء ولا مردّ له، وهو الآن أصبح قادمًا في الطريق كما نقول، أتى وإن لم يؤذن له بالدخول، فالقرار “الإلهي” قد اعتمد، والمسألة أصبحت مسألة وقت ليس إلا، هي الآن في حكم المحتوم. أما إن كانوا يظنون بأنّهم قادرون عليه وأنّهم لا يخافون منه، فالآية توجّه لهم تهديداً صريحاً وقوياً في صيغة “لا تستعجلوه”، والتي تتضمن تعبيراً مبطّنا لشدة العذاب القادم وعظمة أهواله. ثم تتضمن الآية رسالة تطمين للنبي(ص) وللمؤمنين المرابطين بأن الله معكم وناصركم، وعليكم الصبر وعدم الاستعجال، فإنّ أمر الله بخلاصكم ونصركم قد صدر. أما آخر آيتين في السورة فتدعو إلى: “وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ…