الاحتفاء بالمناسبات الدينية أو الأممية فرصة لإنعاش الذاكرة بالنبش في قديمها لنأتي منها بجديد متجدّد .. في ذكرى مولد الإمام علي بن أبي طالب فتّشت في ذاكرتي ونبشت في كتبي لعلّي أقرأ ما لم أقرأه من صفحات حياة هذا العظيم الذي خدم الإنسانية ولازال بفكره وشخصيته الفريدة .. فكان هذا المقال. سُئل: كيف تعرّفت على شخصية الإمام علي، متى وأين؟ فأجاب بإسهاب: تلقّيت دراستي في بلدتي (مرجعيّون) التي عُرف أبناؤها بميلهم الشديد إلى العلم، وكنت أحياناً أهرب من المدرسة عندما أستطيع الهروب وأحمل معي كتابين هما ديوان المتنبي، ومجمع البحرين، وألجأ إلى كنف من أكناف الطبيعة الجميلة حيث أجلس تحت شجرة ظليلة أو على مقربة من مياه جارية، وأقرأ هذين الكتابين بنهم، وذات مرّة رآني شقيقي في هذه الحال فشجعني على المضي فيما أنا فيه ولو اضطررت للهروب من المدرسة أحياناً، ثم جاءني بكتاب “نهج البلاغة” وقال لي: أدرس هذا الكتاب واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه فإنّ فيه الخير كلّ الخير .. أضف إلى ذلك أنّ لشقيقي قصائد كثيرة…
لقد قام عالم الحداثة على الثقة بالإنسان بديلاً فاعلاً عن التواكل على الآلهة وانتظار الفرج بالسكون أو التوسل، وعلى الاستثمار بدل الزهد والتقشف، وعلى الثقة بعقل الإنسان وقدرته على الإبداع والسيطرة وحل المشكلات ووضع التشريعات من واقع التجربة دون الرجوع لنصوص مقدسة، لقد أزاحت الحداثة الآلهة من المركز ونصّبت الإنسان مكانها. وبالفعل أثبت الإنسان نجاحات باهرة، ووقع في إخفاقات مدمرة، وتمكن من توسعة العلم والمعرفة في قرنين من عمر البشرية بما لم تعلمه ولم تمارسه في قرونها السابقة، ولا يزال يتقدم حتى اكتسب قدرة على التجديد الشامل لعلومه كل خمس سنين. لقد أغمضت الحداثة عينها عن العالم الآخر الذي ظل يشغل الإنسان طوال قرون حياته، فعلى عكس كل الحضارات لا نجد للحداثة معبدًا، ولا ربًا، فمعبدها مصانعها ومختبراتها، وربها إنسانها المفكر المبدع، لم يعد إنسان الحداثة يعالج خوفه من الطبيعة وتقلباتها بالتوسل والتضرع والقرابين، فهو لا ينتظر الفرج من السماء، بل يبادر للتغيير، ويفكر في مهارات التسخير والاستغلال. لم يعد إنسان الحداثة ينتظر الجنة، بل بادر لتحويل أرضه إلى جنة،…
قيل للمتحمّسين لإصدار قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة في أوروبا: “إن هذا القانون ينتهك الدستور”، فقالوا: “سنجد طريقة لقوننة حظر الحجاب .. فالقوانين قابلة للتطوّر”! في إشارة منهم إلى الالتفاف على الدستور والاعتداء على المؤسسات القائمة على حماية القانون بسنّ قوانين خاصة لفئات معينة من المواطنين، ما يجعلها اعتباطية وتؤدّي إلى خلخلة البنية الدستورية لدولة القانون التي أُسّست عليها الأنظمة الغربية، وهذا هو أخطر ما في الأمر، وأكبر خسارة للعلمانية سواء بمعناها الرائج أي “فصل الدين عن الدولة”، أو بمعناها الآخر المُروَّج –كما يُنظّر البعض- بأنّها تعني الدولة العلمية التي تسنّ قوانينها استناداً على الدراسات الموضوعية، والإحصاءات والمناهج العلمية. رُبّ ضارة نافعة، إذا عرف المنتهكة حقوقهم كيف يناضلون من أجلها باستخدام آليات دولة القانون وأدواتها المتاحة، والاستعانة بالشخصيات المتنفّذة والمنصفة، وبناء التحالفات المثمرة مع منظمات حقوق الإنسان المعتبرة، لاسترجاع حقوقهم التي ضمنها لهم الدستور ومواثيق حقوق الإنسان، ففي فرنسا مثلاً فاز أربعةٌ وثلاثون صوتاً ضدّ (صوتين)فقط من اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان لرفض أي قانون يمنع النقاب بشكل عام…
اقتطعتُ بعض الردود التي علق بها أصحابها على مقال ظنّوا فيه أن الكاتب تدخّلَ في أمر يخص الفقيه وعالم الشرع لا الكاتب المثقف، ومن هذه الردود: “بئس المعركة تلك التي تخوضها قبال شرع الله!!، “إذا حكى الشرع فليس لك الأهلية للخوض في قضايا أكثر من قدراتك!!، “ما بالكم أيها الكتّاب تحترمون كل المتخصصين في اختصاصاتهم وإذا وصلتم إلى شرع الله تفتقت قرائحكم بالغث والسمين!!، (كم مرة قلنا اللي ما ليه في الشرع ما يتكلم)!! فمن الذي يحدد مساحة المثقف؟! من الواضح أنّ هذه الردود إنما تنطلق عن قناعة راسخة مفادها أن الكاتب المثقف لا يحقُّ له أن ينقد النص الديني، وأنه لا يجوز له أن يطرح رأيا مخالفا لما هو السائد في ثقافة مجتمعاتنا. وهذا بحدّ ذاته تغافل عن الدور المهم المناط بالمثقف، وخلط بين النقد البنّاء واستنقاص الدين. فلو تعاملنا مع دور المثقف حسب الواقع لما شكلنا عليه حصارا، ولطالبناه بمزيد من الإسهامات الخيّرة، فمتى ما كان المثقف مخلصا للأمة التي ينتمي إليها من خلال تجذره الثقافي بعقيدتها، واعتزازه…
“هي السيدة الوحيدة التي يشار إليها باسمها في القرآن الكريم كلّه، حتى حوّاء لا تظهر في القرآن إلاّ بوصفها زوج آدم (ع)، أما الشخصيات النسائية الأخرى في القرآن فتُذكر مقرونة برجل: زوجة، أم، ابنة أو أخت .. هي المرأة الوحيدة المكرّسة لله قبل أن تولد (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)، وهي الوحيدة التي صرّح القرآن بأنّ الملائكة خاطبتها بلا واسطة: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، وهي الوحيدة التي يخصّص لها القرآن الكريم سورة باسمها، ويرد اسمها في القرآن خمساً وثلاثين مرّة في مقابل تسعة عشر مرّة فقط في كل الأناجيل وأعمال الرسل، بينما تخلو منه الرسائل والرؤيا ..” هذا وغيره من مكانة عظيمة اختُصّت بها السيدة مريم العذراء (ع) في القرآن الكريم دون غيرها من النساء فاجأ الباحث السويسري “ميشيل دوس” فتتبّع وحلّل جميع الآيات التي جاء فيها ذكرها (ع)، فانبهر وتفاعل مع اللغة القرآنية الراقية التي وُصفت بها مريم (ع)، والدقّة المتناهية التي شرح…
النطق بالشهادتين هي جواز المرور للدخول في الإسلام، فإذا قال إنسان: “أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله” فقد أسلم، وأصبح من زمرة المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم من الحقوق والواجبات، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: هل كلُ مَنْ نطق بتلك الكلمات “شهد” حقاً لله بالإلوهية ولمحمد(ص) بالرسالة؟ بمعنى هل عرف الله سبحانه فشهد بأن لا إله إلا هو، وعرف محمداً(ص) فشهد بأنه رسول الله؟ لأنّ الشهادة لا تكون إلا عن معرفة، ومجرد النطق بالشهادتين لا يكفي لإثباتها. ولكن الرسول الأعظم(ص) اكتفى من أصحابه في بداية الدعوة بالتلفظ بشهادة التوحيد، بل كان مطلبه مقتصراً حينها على ذلك، فكان يقول(ص): “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”، ولم تُفرضْ بعدُ الصلاة ولا الزكاة ولا الصيام ولا الجهاد، كما لم تبدأ قائمة المحرّمات بالنزول بعد، بل جاء الأمر والنهي متأخراً قليلاً ومتدرجاً لدرجة أن المسلمين كانوا يؤدون الصلاة وبعضهم لازال يشرب الخمر، حتى نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى…
(يأبى كلُّ أحمقٍ إلاّ أن يخطَّ للهِ خطّةً يبني له عليها مستقبلَه! فكأنّما يريد أن تمشيَ يدُ الله في التقدير على أجزاءِ الصورة التي في خيالِه) لا شكّ أنّ الصورة النمطية التي يعكسها المجتمع في عقولنا وبحسب الفهم المرتكز في أذهاننا للدين، وبعيداً عن التذاكي سيفرض علينا أن نختار نمطاً معيناً يعكس ظاهره ما بدواخلنا من فهم للدين، أو ما نعلم أنّ النسق الاجتماعي يفرض على المتدين أن يكون متزيّاً به. المتدين مظهراً، هو الملتحي، المعمم، أو مسدل الغترة، قصير القميص، المتحجبة، المتبرقعة، المتغشية…، فيه أثر السجود، بسبحة يسبح، يتمتم بالأذكار، يحضر المساجد والجمعة والجماعة، يلبس مألوف الثياب بمألوف الألوان، ويحلق المعتاد من الحلاقة، يكثر من الوعظ والإرشاد، ويكثر من التذمر على تبدل الزمان. رحلته للأماكن المقدسة فهو يتراوح بين الحج والعمرة وزيارة الأولياء، يجلّ الأعمال الخيرية وجمع الصدقات ويرى أنها علاج الفقر، ويعظم عمارة المساجد، وسقاية السبيل، يحضر الجنازات ومجالس العزاء، أكثرهم شعبيون لا نخبويّون.كما يتميز المتديّنون بالانعزال الاختياري عن ما لا يوافق (الدين) من الناس والأنشطة العامة، وعن…
يقال أنّ أصل السبحة يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، وأنهّا وجدت في العراق كما عثر عليها في الآثار الفينيقية، وقد كانت تستخدم بشكل كبير كتعويذة وتميمة، بالإضافة إلى استخدامها للمقايضة في المعاملات التجارية، ووُجِد لها استخدام كهنوتي وتسبيحيّ -قديم وما يزال- بالديانات المختلفة سواء الهندوسية أو اليهودية أو المسيحية، أما في صدر الإسلام، فلم تكن السبحة معروفة أو مستخدمة، وقد شوهد النبي(ص) يعقد التسبيح بيديه، لكن الصحابة بعد ذلك استعانوا بالسبحة للمساعدة على ضبط عدد الأذكار أثناء التسبيح، وكانوا يصنعون مسابحهم من نواة البلح، وهكذا ارتبطت السبحة مذاك بالعبادة والأذكار، إلا أنّ السبحة أصبحت عادة تلازم الرجل الشرقي –دون المرأة-عبر الأزمنة، يقلبها الرجل بين يديه في ذهابه وإيابه، ليبدو للرائي أنّه ذاكر لله مسبّح له، وفي مجتمعات أخرى كالخليجية تعدّ السبحة جزءا من الكشخة والوجاهة، ينفق أحياناً لشرائها آلاف الدنانير. لكن للسبحة في أيامنا الحالية عند المتدينين شأنٌ عظيم، لم تعد وظائفها كما السابق، فلا هي عادة اعتادوها ولا وجاهة يطلبونها، أصبحت السبحة وسيلة لا غنى عنها، ليس للرجل…
انفضّ المعزّون بمصاب الحسين(ع) آجر الله مُحسنَهم وأحسنَ عزاء أمّتنا الإسلامية قاطبةً، بعد أنْ وضعت المواكبُ الحسينية (في البحرين) أوزارها، ولملم عمّالُ نظافة البلدية قمامة أوساخ الشوارع والأزقّة بعد أنْ سحبتْ الحشود الغفيرةُ أذيالَها، والآن ذهبتْ السكرة وآن أوانُ الفكرة. لطالما توالت الانتقاداتُ أنّ الحسين(ع) يُوظّف طائفيًّا ومذهبيّا فقط وربّما أضيق أيضاً، مثلما طالما توالى النقْدُ أنّ الفروع قد ذهبت بالأصول، وأنّ الثمرة توارتْ تحت دعاوى الاحتجاجات بالشجرة، وأنّ “الطقوس” خطفتْ الأضواء بالمرّةِ عن “الجوهر”. صنَع الله “للثمرة” قشرًا ليحفظها، إذ لا حاجة للإنسان بالقشر إلا للنفاذ به إلى لبّ الثمر، ولكنّ الإنسان ظلّ وسيبقى -والمتديّن خصوصًا وبكلّ ملّة- ينشغل بالقشور والقوالب، ويُفاصل عليها ويُناضِل المختلفين معه فيها، ولو على حساب قيَمٍ وأصولٍ مشتركة هي جوهر الأمر الديني.. الصراعات المذهبية والمِلّية أكثر مصارعها هنا، حين خرج الحسينُ(ع) من حرم بيت الله سُئل لماذا أحللت إحرامك؟ أجابهم بأنّه لا يريدهم أن يقتَلوه داخل الحرم فيكون سبب انتهاك حرمة البيت الحرام! كانتْ غاية الحسين(ع) حفظ القيَم والحُرمات، لذلك لم ينسفْها ويطأها أبداً،…
ووضعت معركة كربلاء أوزارها، وما وضعت معاركنا ضد الباطل – مذ ذاك – بعدُ أوزارها، ولن تضع .. حتى يرجع الحق – كل الحق – إلى أهله، وإلاّ فالساكت عن ضياع حقوق المظلومين شريك في دم الحسين، أَلبس السواد أو لم يلبس، حضر العزاء وشارك فيه أو لم، لطمَ وطبّر وأدمى نفسه أو لم يفعل، فالولاء لنهج الحسين وما يرمز له من تضحية وعطاء وعزّة وإباء أكثر من مجرد طقوس تقليدية .. الولاء للحسين (ع) ثقافة تُترجم إلى أقوال وأفعال في كل آن ومكان لتصدق المقولة الشهيرة “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”، وكما نَصَرَ الحسين – الثائر على الظلم – كلٌّ من المسيحي والمسلم، والعبد والحر، والأبيض والأسود، والشيخ والطفل، والمرأة والرجل، فكلُ مدافعٍ عن حقوق الناس من المظلومين والمستضعفين من أي ملّة أو مذهب في أي زمان ومكان فهو نصير للحسين (ع). تزاحمت مناسبات مهمة عدّة قد تبدو للوهلة الأولى أنها متشاكسة ما قد يسبب حرجاً للبعض في التوفيق والجمع بين مشاعر الفرح والحزن في آن واحد، فيحار…