في قصة موسى والخضر(ع)، عندما شرع الخضر في ذكْرِ تأويل ما قام به في رحلته مع النبي(ع)، نلاحظ استخدامه لثلاثة ضمائر مختلفة لبيان علّة أفعاله الثلاثة، فعندما ذكر سبب خرقه للسفينة قال “فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا” مستخدماً ضمير المتكلّم المفرد، وفي قصة قتله للغلام قال: “فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا”مستخدماً ناء الفاعلين، وعندما بيّن علّة بنائه الجدار قال “فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا”، مستخدماً ضمير الغائب العائد على “ربّه”. فما مقصود هذا التنويع؟ الجواب بفهم صيغة الأفعال نفسها، فالخضر(ع) وهو الذي أُوتي الرحمة، وعُلّم من لدنهم علما، لابدّ وأن يكون على درجة من الوعي والبصيرة تمكّنه من الاجتهاد في أحيان كثيرة، ولكنّه محتاج للتسديد في الأمور المعقّدة أو الغيبية، تماماً كما نبينا الأعظم(ص) في قراراته، يجمع بين نوافذ العقل ونوافث الوحي، فأحياناً يحكم بإجتهاده وتدبّرِه، وِفقَ الأسباب والمعطيات المتوفّرة لديه، وأحياناً أخرى يأتيه التسديد من الوحي.
عوداً على القصة، ففي خرق السفينة بيّن الخضر (ع) أنّه فعل ذلك بإرداته فقط، بقوله “فأردتُّ”، لأنّ علّة خرق السفينة ظاهرة، فالمَلِكُ الذي يأخذ كلّ سفينة غَصباً ظاهرٌ جوره وظلمه، والخضر(ع) كان عالماً بأمرِه ومتابعاً له، وقوله “يأخذ (كلّ) سفينة غصباً، دليل على أنّ الخضر قد شهِد غصب السفن، وشهداستمرارية هذا الفعل، ولذلك فقد اجتهد اجتهاداً شخصيالانقاذ المساكين بخرق سفينتهم، لتوفّر كلّ المعطيات والأسباب الدالة على حكمة التصرّف.
أمّا قصة قتله للغلام، فقد استخدم فيها ناء الفاعلين، ويظهر أنّ الجمع المقصود هو الخضر(ع) مضافاً إلى الملائكة المسدّدين، أو المدبّرين،والغلام – كما في مقاييس اللغة لابن فارس-هو الطارّ الشارب، ومن له صفات دالة على استقلالية نسبية، وبلوغ مستوى سلوكي فيه مرتبة من الاختيار والعقلوالعلم والإرداة، لذا فمن الممكن لذوي التخصص والبصيرةاستشراف مستقبل غلام ما من خلال تقييم سلوكه الحاضر، ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن لهم القطع نهائيابخاتمته أو باستحالةإصلاح حاله، فلعله يهتدي يوماً، ومن هذا المنطلق كانت الإرادة في هذا الفعل جماعية، فالخضر(ع) ببصيرته النافذة استطاع استشراف مستقبل الغلام، ولكنّه لم يكن قادراً على اتخاذ قرار قتله بمفرده، ومن هنا يأتي تسديد الملائكة، وقطعهم باستحالة اعتدال هذا الغلام واستقامته على الجادة والطريقة المُثلى،لذاكانت الإرادة ثنائية، الخضر ببصيرته، والملائكة لمعرفتهم بمجريات الأمور وأقدارها.
وفيقصة بناء الخضر(ع) للجدار فوق الكنز المخفي قال: “فَأَرَادَ رَبُّكَ”، معيّناً الإرادة في “ربّه” فقط هذه المرة، وذلك لكون القضية هنا تتعلق بغيب مطلق، فما يُدري الخضر أنّ تحت الجدار كنز! إلّا أن يُخبره “الله” بذلك! فلا معطيات يمكن القياس عليها، والأمر مجهول بالكامل، ولا يمكن أن يُعلَم إلّا بإخبارٍ من “ربّه”، وقد أوضح عليه السلام ذلك حين عقّب في نفس الآية بقوله “وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي”.