في وقت السحر بينما كنت أنتظر أذان الفجر وأنا اقرأ آيات القرآن الكريم، استوقفتني هذه الآية:
بسم الله الرحمن الرحيم: “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”
قرح، كلمة تحمل في مضامينها شعوراً بالألم، جرح متفتح وحرقة محسوسة من هذا الجرح..
كان هذا أول ما تبادر إلى ذهني، ثم استرسلت في التفكير، إن ما نحن فيه من “أزمة” – إن صح التعبير – ما هو إلا أحد أشكال هذا القرح؛ فهناك من يعاني من فقد الأحبة، وهناك من يخاف على نفسه وعلى من يحب من الاصابة بالمرض، وآخرون قد فقدوا وظائفهم ومصدر رزقهم بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والحجر المنزلي، وهناك من لم يتعرض لضرر مادي مباشر إلا أن التباعد الاجتماعي وإلغاء الأنشطة الاجتماعية قد سبب له ضيقاً نفسياً وشوقاً للقاء الأهل والأصحاب..
ولكن مهلاً.. فإن الآية تقول: “فقد مس القوم قرح مثله”، فما يحدث لنا ليس بجديد، بل هذا الحدث قد تكرر سابقا وإن بدرجات متفاوتة، ولكن الأكيد أن البشرية أُصيبت فيها بأوبئة اضطرتها المكوث في المنزل ومن لم يلزم منزله فقد أصيب بأضرار بالغة، وآلاف من الناس باتوا ضحايا تلك الأوبة.
الآية الكريمة تكمل بسنّة إلهية: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فالأحداث التي جرت على السابقين تُنقل لنا عبر الأجيال لنتعلم ونتعظ منها، وقد تعني بأن سنة الله تقتضي أن ينال كلٌّ نصيبه من الألم والمعاناة، فلا يوجد من هو منعّم دائماً وفي كل الأحوال، ومن هو مبتلى دائماً، بل كما يمسنا القرح فهو يمسّ غيرنا، أعداء أو أصدقاء، وتتمة الآية تبيّن الغاية من ذلك وهي “ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء”، أي أن هذا القرح الذي يصيب الجميع فإنه يكون بهدف تمحيص واختبار لإيمان فئة تثبت جدارتها ليتم اختيارها كشاهد على زمانها، وأخرى ظالمة لنفسها “والله لا يحب الظالمين”.
العبرة:
القرح والألم أو المحن والأزمات لم يقدّرها الله علينا اعتباطاً، وإنما بهدف التمييز بين الخبيث والطيب، فإما أن نثبت أصالة جوهرنا وقوة إيماننا لنكون ممن يتخذهم الله شاهداً وشهيداً، أو أن نكون ممن يظلم نفسه بقلة الصبر وعدم الصمود فنخسر بكل معاني الخسارة لأننا أصبحنا من الظالمين الذين لا يحبهم الله، فهل نوينا أن نخرج من هذا القرح بجروح وندوب مادية ومعنوية أو أن نُكلل بالشهادة.
رأى الراعي شجرة محمّلة بالثمار فتسلّقها ليقطف من ثمارها، وفجأة هبّت ريح عاصفة كادت تلقي به أرضاً، فشعر بحالة من الاضطرار فنذر لله تعالى إن هو أنجاه من ورطته تلك أن ينفق ريع قطيعه هذا في سبيل الله، هدأت الريح قليلاً واستطاع الراعي أن ينتقل إلى فرع أقوى، ما أشعره بشيء من الاطمئنان، فتراجع قليلاً عن نذره وقال: يا ربّ، أنت لا ترضى أن تتضوّر أسرتي جوعاً بينما ينعم الغرباء بناتج جهدي وعملي، إذن سأنذر بنصف الريع لأعمال الخير ونصفه الآخر لعائلتي، ثم خفّت الريح أكثر واستطاع أن يجد له موقعاً أفضل على جذع الشجرة، فتساءل مخاطباً ربّه: ولكن يا ربّ هل أنت بحاجة إلى نصف ريع قطيعي هذا؟ حسناً، سأجعل نصف ناتج صوفه فقط لك ونصفه الآخر لي .. وعندما هدأت الريح تماماً وهبط من الشجرة، قال: وما حاجتك يا ربّ أنت بشيء من ذلك، فلا ريع ولا صوف ولا هم يحزنون، لقد أخطأت عندما نذرت مالي لك، وها أنا أتراجع عن خطأي ولست مضطراً أن أدفع حصيلة عمري كلّه ثمن خطأ ارتكبته في لحظة ضعف!
ما من عاقل وصاحب نفس سويّة إلاّ ويستنكر هذه (النذالة) و(الرذالة) في التنازل عن المبدأ وعدم الوفاء بالوعد استجابة لحالة نفسية متقلّبة تعكس علاقة عرجاء عوراء وجهل في التعامل مع ربّ الأكوان يمارسه أكثرنا في منعطفات الحياة المختلفة، وقد تبدأ هذه الحالة مع البعض في الشهر الكريم وبالأخص بعد انقضاء ليلة القدر..
فما يكاد أن ينسلخ الشهر حتى نكون قد انسلخنا من التزاماتنا ووعودنا وعهودنا التي قطعناها على أنفسنا، فنعيش قمة المسكنة والاضطرار مع الله في تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر، نمضيها بترتيل آيات كتاب الله التي لو أُنزلت على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله، وترديد أدعية لا يقوى على حمل كلماتها الجبال الراسيات، لننقضها مع صبيحة فجر ليلة القدر أو مع فجر يوم عيد الفطر!
فقرأنا القرآن لأجل المثوبة، لا لكي نبحث عن أنفسنا في آياته الكريمة، أو لنقرأ رسائل ربّنا إلينا من خلاله، وعكفنا على قراءة الأدعية للتبرّك لا لنستخرج منها برنامج عمل يستمر معنا حتى رمضان القادم نتطوّر من خلاله لننتقل من مرحلة الحضانة والتمهيدي في مدرسة الحياة وفي علاقتنا بالله إلى مستويات أرقى وأزكى..