الله ما كتب، الله ما شاء، الله ما أراد، الله ما قدّر، الله ما وفّق، الله ما قَسم .. العامل المشترك والعقيدة الحاكمة في هذه العبارات وغيرها من كليشات جاهزة نستخدمها في اليوم عشرات المرّات هي: تدخّل الله في تفاصيل حياتنا لتنتهي إلى ما هو مرسوم لها سلفاً، وكما هو مقضيٌ عليها منذ الأزل، رغماً عنّا وعن إرادتنا واختيارنا. جمل نكرّرها لاشعورياً (أي ببرمجة مسبقة)، ونعتقد بها يقيناً قلبياً، ونتشبّث بها بقوّة، لأننا نظنّ أنها من صدق الإيمان وقوته، مع أنّ فيها اتّهاماً لله سبحانه وتعالى بسلب حرية اختيارنا وسَوْقَنا اضطراراً إلى أقدارنا، وبالتالي الشك في عدالة الله الذي يحاسبنا على ما قد قُضي علينا. تلك هي بعض مسلّماتنا الفكرية الراسخة التي لم نسمح لأنفسنا بمناقشتها أو طلب البرهان العقلي على صحّتها رغم أنها تسبّب لنا تضارباً وتناقضاً في صميم عقيدتنا.
هذه العبارات وغيرها تُعبرّ عن عقيدة الجبر التي تحكمنا وتسيّر حياتنا (لاشعورياً) رغم أننا نرفض أن نوسَم بصفة (الجبرية) لأننا تعلّمنا مذ شبابنا أنها عقيدة منحرفة لا تتّفق مع عدل الله سبحانه، ولو أعددنا محاضرة عن (الجبرية) لكشفنا مثالبها، ولو دخلنا في مناظرة فكرية مع من يؤمن بالجبرية لدحضنا أدلّتهم بحجج قوية، ولكن لا يكون ذلك إلاّ على مستوى الفكر والتنظير فمعظم أقوالنا وأفعالنا تدلّ على أننا جبريّون بامتياز. نحن ندّعي بأننا مخيّرون ولكننا نتصرّف وكأننا مسيّرون، نترك الظروف تتحكّم في مصائرنا، فلا نفكر مليّاً قبل اتخاذ القرارات المصيرية في حياتنا، ولا نتوخى الموضوعية في التفكير، ونجانب الحق في دراسة معطيات الواقع، ، ثم نُلقي باللائمة على الأقدار أو (الله) إذا ما جرت الأمور على غير ما نشتهي من جرّاء أخطائنا لنقول في نهاية المطاف وبعد أن يأتي (الفاس في الراس) أن الله شاء ذلك، وهو الذي قدّره وقضاه، وما نحن إلاّ منفّذون للإرادة الإلهية الأزلية التي قدّرت وقضت وانتهى الأمر.
لهذه العقيدة عمق تاريخي، وبعد سياسي، وضع حجر أساسه الأمويّون ليمارسوا استبدادهم على الأمة ويقمعوا كل محاولات التحرّر من سلطتهم فأقنعوا الناس بأن وجودهم على سدّة الحكم قدر مقدّر عليهم لا يمكنهم تغييره أو الخروج من قبضته. غُرست هذه العقيدة على مدى سنين طويلة وبدعم من فقهاء السلاطين الذين استرزقوا بالدين وتاجروا بالعقيدة، فانتهى الحكم الأموي واستبداده وبقي الاستبداد العقائدي ممثّلاً في عقيدة الجبر التي تجذّرت في يقين الأمة فكان لها أكبر الأثر على تخلّفها. عقيدة الجبر هذه تولَّد عنها اللامبالاة، والسلبية، وحب الراحة، والتكاسل، والتسويف، ودنوّ الهمّة، والتواكل وأُدرج ذلك كلّه تحت عنوان إيماني وهو “الرضا بالقضاء والقدر” بعد أن حُرّفت كل تلك الألفاظ عن معانيها الأصيلة والصحيحة، فأصبح الرضا مرادفاً للخنوع، والذُلّ، والمسكنة، والسكوت عن الحق، وتحمّل الضيم؛ واختلط القضاء بالقدر وأصبحا شيئاً واحداً، وتبع ذلك خلط في معاني المشيئة، والإذن، والإرادة الإلهية، وهكذا حتى مُسخت العقيدة الحقّة التي أخرجت الناس من ظلمات الجهل والشرك إلى نور العلم والإيمان والتوحيد، فبقي اسم الإسلام ورسمه، وأُزهقت روحه. .
أُزهقت روح الإسلام فأفرز رسمه أجيالاً مسلوبة الإرادة تعتقد بأنّ كلَّ ما جرى عليها أو سيجري مكتوب مسبقاً، فرضى الفقير بفقره، والعاجز بعجزه، والتعيس بتعاسته، والمتّهم الأوّل والأخير هنا هو القدر المشؤوم (حسب اعتقاد هؤلاء)، فمن لمن يُحسن اختيار شريك حياته، أو كان اختياره هوى محض، لم يأبه فيه بأيٍّ من متطلبات الزواج الناجح إذا ما فشل هذا الزواج قال (ويش أسوّي الله كاتب)!! والمرأة التي ابتُليت بزوج أرعن، ظالم، تتجرّع الغصص ليل نهار ظنّاً منها أن هذه الحياة “قسمتها ونصيبها”، ومن قصّر في تربية أولاده فانحرفوا وانتكست أحوالهم سبّ القدر الذي ابتلاه بأبناء ضالّين، وكأن “الله كاتب” أن يكون ضالاًّ وليس لوالديه دور في استقامته أو انحرافه، ومن لم ينجح في حياته العلمية وفشل في حياته العملية لقلّة جدّه واجتهاده لعن الدهر لأنّ قدره الفشل!! وهكذا إلى أن أصبحت أمّتنا هي الأمّة المتخلّفة، والمستهلكة، والنامية أوكما أطلقوا عليها “العالم الثالث” مع أنه لم يُكتب علينا منذ الأزل أن نكون كذلك، وبملكنا أن نكون أمّة رائدة في مجالات العلم والصناعة والأخلاق وغيرها بما نملك من مقوّمات حضارية وبشرية ومادية ومعنوية ولكن باعتقادنا بأننا “مكتوب علينا” كتبنا على أنفسنا أن نكون مستهلكين لا منتجين، ومتخلّفين لا حضارييّن، ومستبدًّا بنا لا أحرار.
إن هذا الاعتقاد الخاطئ أدّى إلى أن تُفهم الكثير من القيم الإسلامية السامية بصورة خاطئة وتُترجم إلى أفعال سلبية تنتج واقعاً سيئاً، فاعتُقد بأن عدم تحسين الأحوال المادية والرضا بضيق العيش من القناعة، وأصبح مفهوم التوكّل الذي وُضع ليملأ الإنسان قوّة باستمداده القوة من الله سبباً للتخلّف بعد أن تحوّل إلى تواكل، وسُمّي الخنوع للظلم وعدم التصدّي له بـ(الصبر)، فصبر الناس على استبداد الحاكم إيماناً، وصبر المرؤوس على ظلم الرئيس احتساباً، وصبرت الزوجة على تسلّط الزوج تعبّداً، وهكذا إلى أن أصبحت الأمة لا حول لها ولا قوّة.
فبقدر ما أُريد للثقافة الإيمانية أن تشحذ همم الإنسان وتشحنه بالقوة والعزّة والقدرة والإقدام والشجاعة بربطه بمصدر العزّة كلّها (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، بقدر ما حطّت تلك العقائد الفاسدة من همّة الأمة، فلو استطعنا أن نكسر هذا القيد – قيد الجبرية – المكبِّل لطريقة تفكيرنا لكانت تلك الخطوة الأولى والأهم في طريق “حتى يغيّروا ما بأنفسهم”. والخطوة الثانية تأتي بالممارسة العملية التي تثبت لنا أننا أحرار في تقرير مصائرنا وبملكنا أن نكتب أقدارنا بأيدينا فإذا ما أردنا أن نتقاعس عن السعي لمزيد من الرزق بزعم “أن الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله” ما علينا إلاّ أن نقول مُسائلين أنفسنا: ولكن ما يدريني كيف قُدّر لي؟ أبسعيي أم بسعي غيري؟ وإن كان بسعيي فبأي سبب؟ وهكذا في ملاحقة منطقية ومطالبة لبرهان لكل ادّعاء يعزّز التقاعس والركون إلى سيء الحال منشأه عقيدة فاسدة، ومسلّمة غير مسلّم بها، تحقيقاً لما يريده الله لنا من عبادة أحرار وإيمان ببرهان ورفضاً لما يراد لنا من عبودية عبيد وتجّار، وإيمان كإيمان العجائز! ومثل هذا الكلام يصدق على الشعوب والأمم فما الذي يمنع دولة زراعية أن تجمع إلى جانب صدارتها في الزراعة التقدّم في المجال الصناعي والتجاري وغيره فتجمع بين أكثر من نشاط اقتصادي لتنتعش وتزدهر إذا ما آمن شعبها بأن مصائرهم وأقدارهم تُكتب بأيديهم؟ لا شيء يمنع إلاّ الاعتقاد بأن “الله ما كتب”!!