في غزة تمت مواجهة دموية بين جند الإسلام السلفية وحركة حماس الإخوانية، وفي الصومال مواجهة دموية بين الحكومة والمعارضين، ولكن العنوان المهم أن المواجهة مبطنة بين السلفية ممثلة في حركة الشباب والصوفيين أنصار شريف والتي تجلت معالمها في هدم الأضرحة ، وفي باكستان مواجهات دموية بين السلفية من أنصار طالبان والشيعة صرّح بتشريع العلماء لها بيت الله محسود في مقابلة له على الجزيرة، ولا تقتصر المواجهة هناك على ذلك بل تتعداها للمواجهة مع فرق سنية أخرى، وفي العراق مواجهات دامية بين المقاومة التكفيرية السلفية والشيعة دلّ على دوافعها العقدية استهداف الأضرحة والمساجد والحسينيات والتجمعات السكنية والأسواق، وفي اليمن مواجهات بين السلفيين والزيدية. هذا على مستوى المواجهات الدموية، وأما المواجهات التي لم تبلغ حد استباحة الدماء بشكل صريح وواسع فهي موجودة بين المسلمين السلفيين وبين المسلمين من غيرهم في كل دول العالم الإسلامي تقريبا، ونعني بالسلفيين هنا خصوص الحنابلة المتأثرين بالحركة الوهابية، سواء منهم الحركات الجهادية التكفيرية وغير التكفيرية أو الحركات الدعوية غير الجهادية.
إن الحركة الوهابية الحنبلية قامت على أساس من الدعوة لتنقية التوحيد من مظاهر الشرك التي تداخلت على المسلمين بحسب قراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واتخذت الحركة منذ بدايتها الطابع المتحمس المتشدد الذي عرف به الحنابلة تاريخيا، ولما تسنى للدولة السعودية الثانية الاستقرار والرخاء صار في أيدي الدعاة الكثير من الإمكانيات التي وظفوها في خدمة دعوتهم ونشرها في شتى أقطار المسلمين بهمة وحماس منقطع النظير، فما لبثت السنون حتى أثمرت نموا في أتباع السلفية في كل بلاد العالم الإسلامي وتمكنوا من اكتساب التابعين حتى داخل معاقل المذاهب السنية الأشعرية كمصر. لا يختلف الحنابلة الجهاديون عن غير الجهاديين إلا في الموقف من السلاطين حيث خرج الجهاديون عن السمت الحنبلي الرافض لكل أشكال الخروج على الحكام والخلفاء والممضي لكل أشكال البيعة معهم دفعا للفتنة، وذلك لما تأثروا بفكر الخارجين على حركة الإخوان من المكفرين للحكام تطرفا في تطبيق فكر السيد قطب، وبفكر أبو الأعلى المودودي، فظهرت الحركات السلفية الجهادية المكفرة للمسلمين من الحكام و الموالين للحكام أو المكفرة للحكام دون سائر المسلمين.
ولكن الحركة الوهابية السلفية كانت قد قررت أن كل مسلم يتوسل بغير الله من الأنبياء والأولياء أو يجعلهم وسائط بينه وبين الله أو يستعين بهم في تفريج كرب أو قضاء حاجة فهو مشرك يعبد غير الله ، وهذه هي القضية المركزية في الحركة الوهابية، وقام جهادها الطويل لتنقية التوحيد من هذه المظاهر باعتبارها أعمال شركية. هذه القضية المركزية خلقت منذ البداية صداما بين الوهابيين الحنابلة مع كثير من فرق المسلمين، ولكن كان النصيب الأكبر فيها للمواجهة مع الشيعة بصفتهم أكثر فرق المسلمين بدعا في الدين بحسب قراءتهم لهم، ومن بعدهم مع الصوفية أكثر المسلمين تعلقا بالأولياء وشيوخ الطرق والذين لا يتحرجون في ابتكار الأدعية والأذكار غير الواردة عن الرسول والذين يدّعون الوصول للحقيقة الدينية عن طريق الكشف دون الاقتصار على الرواية الأمر الذي جعلهم في تناقض مباشر مع أهم مرتكزات السلفية الحنبلية المتمسكة بالحديث تمسكا شديدا، الرافضة لكل أشكال الرأي حتى التي جاء بها السنة المعتزلة بل والأشاعرة والماتريدية أيضا.
إذا منذ البداية كان هناك خلاف وتنازع بين السلفيين الحنابلة في الحركة الوهابية الجديدة مع أكثر فرق المسلمين في كل البقاع، في آسيا وأفريقيا، وكانت حوادث التنازع والتدمير لمراقد الأولياء أو التنغيص على روادها هي من النشاط اليومي الدءوب لهم في كل مكان، ولكنه لم يتطور إلى حد القتل والتفجير إلا بعد ذهاب الحركات الجهادية بعيدا في التطرف، وخاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران حيث احتدت ساحة المواجهة وتعقدت بدخول مصالح الدول والحركات السياسية في مجال الصراع. ولقد كانت مظاهر هذا الصراع الأعمى واضحة للجميع في باكستان، ثم وبشكل أشد ضراوة في العراق، وبنوع أقل ضراوة في لبنان ثم الخليج، وكانت لهذا الاشتداد أسبابه السياسية بعد توفر أرضيته الثقافية القائمة على التكفير والاتهام بالشرك من جهة، وببغض أهل البيت من جهة أخرى.
كل هذا قد حدث، ولكن الأمر أخذ يزداد سوءا، فالمواجهة الدامية في غزة ستفجر مزيدا من العداء المكتوم بين السلفية وحركة الإخوان المسلمين وما تمثله من توجهات سنية تمثل الإرث التاريخي للمذاهب السنية الأشعرية والماتريدية، مما سيتسبب إن لم يتدارك في حدوث الملاسنات والمشاحنات في طول بلاد المسلمين وعرضها بما فيها بلادنا البحرين، وكأننا لسنا في غنى عن الحساسيات بين السنة والشيعة لتتفجر عندنا حساسيات بين السلفية والإخوان، وستزداد المواجهات حدة بين السلفية والصوفية في أفريقيا على ضوء المواجهات بين الطرفين في الصومال.
ما نريد أن ننبه له هنا هو الحاجة منذ البداية لأن يتصدى العقلاء للنار قبل أن تشتعل، فهي لما تزال في مرحلة مستصغر الشرر، ولكنها قد تتأجج فيما لو تابعت المواجهة تصاعدها في غزة وانبرى كل فريق يناصر فريقه، وكذلك الحال في الصومال، فالصوفية تملأ أفريقيا المسلمة كلها، والحركات السلفية الجهادية منتشرة فيها أيضا، فينبغي على كل من يملك دلوا من ماء أن يسكبه على النار بالسعي لإصلاح ذات البين بما يضع السلاح بل والتجريح وسيلة لحل الخلاف، وخاصة عندنا في البحرين فالحركتان السلفية والإخوانية تمثلان الثقل الحركي السني في البلاد وبينهما من الحساسيات المعتادة بين كل مختلفين ، وقد تنشب مجادلات ومناوشات في المجالس والمنابر فيدعو هذا لهذا ويدعو ذاك لذاك، ومن هنا يقع المحذور كما قال الشاعر : وإن النار من عودين تورى وإن الحرب مبدؤها الكلام فالواجب على أولي الحجا من كل طرف السعي لتجنب السوء والفتن والقيام بما يزيل الحساسيات ولو بالاتفاق على ترك الحديث في الفتنة ما دامت مقبلة لأجل أن لا تتوسع واعتبار أن ما يجري في غزة هو مشكلة بين أطرافها هم أدرى بظروفهم، فيجب أن لا يخرج عن حدود غزة، فإن محاصرة النار أكبر عامل في القدرة على إخمادها،
وللحق ينبغي أن يقال أن الحركات السلفية بشكل عام تصرفت بروية وعضت على جراحها ولم تنفلت في مواجهات غير محسوبة، وكل ما نتمناه أن تكون هذه استراتيجية بين كل مختلفين ومتخاصمين من المسلمين لا تقتصر على فرقة دون أخرى ليمكن تدارك كل فتق بما يرتقه.