المسألة الطائفية : بحثاً عن تفسير خارج الصندوق المذهبي

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

المسألة الطائفية:

بحثا عن تفسير خارج الصندوق المذهبي

  د. توفيق السيف

مؤتمر ”الوحدة الإسلامية وديعة محمد (ص)”

مملكة البحرين: 28 إلى 30 ديسمبر 2007م

خلاصة الورقة

تستهدف هذه الورقة تقديم معالجة بديلة للمسألة الطائفية، من خلال اعادة تعريف المشكلة واسبابها. وتنطلق المعالجة من فكرة التفكير خارج الصندوق التي طرحها منظمو “مؤتمر الوحدة الاسلامية وديعة محمد”، لكنها تتجاوز الاطار الذي تميل اليه الفكرة. تجادل الورقة بان التوتر القائم حاليا بين الطوائف الاسلامية ولا سيما بين الشيعة والسنة يمثل نسخة اخرى عن التوترات الاثنية والاجتماعية المنتشرة في شرق العالم الاسلامي وغربه. وهي توترات باعثها الرئيس هو التفاوت المعيشي وعدم التوازن في التنمية وتوزيع الموارد وقلة الخيارات المتاحة للجمهور العام لتحسين مستواه الحياتي خارج اطار التخطيط المركزي الرسمي.  هذه البواعث تلبس عباءة المذهب هنا وعباءة الدين او القومية او الطبقة هناك بسبب فاعلية التراث الخاص بالجماعة في تعبئة الانصار وتحديد الاطار الاجتماعي او الجغرافي للمطالب الحياتية العادية. ومن هنا فان الورقة تجادل بان الحوارات بين اهل المذاهب هي ضرورة ثقافية واخلاقية، لكن جدواها تنحصر في تسهيل الحلول، اما الحلول نفسها فهي تتوقف على اصلاحات سياسية – دستورية في النظام السياسي، كما تتوقف على اقرار توزيع عادل للموارد العامة والتنمية لا سيما في المناطق الاكثر حرمانا.
تقترح الورقة ثلاثة مسارات لمعالجة التوتر المذهبي- الطائفي: مسار اصلاح سياسي باتجاه اقرار التعددية وتنشيط دورالمؤسسات السياسية والدستورية في حل المشكلات الحياتية، ومسار اقتصادي يستهدف توفير خيارات اكثر وفرص اكبر للافراد كي يصلحوا حياتهم بانفسهم. ومسار ثقافي يعالج اشكالية الوطن وضبابية مفهومه في الثقافة العامة .

المسألة:

منذ العام 1979 تحول التوتر الطائفي بين الشيعة والسنة الى واحد من الهموم الرئيسية في الشرق الاوسط. وشهدنا منذئذ جدالات عنيفة هنا وهناك حول اسئلة مذهبية بحتة، عقيدية او فقهية، وحول قضايا مجتمعية تتخذ من المذهب او الطائفة وسيلة لتصوير الحدود المكانية للمشكلة او لتبرير قيامها. ومنذ منتصف 2003 اصبح العراق بؤرة اساسية للتوتر الطائفي الذي اوصل البلاد الى شفا حرب اهلية كانت ستقود دون شك الى تفكيك البلاد، كما جرى في يوغسلافيا قبل عقد من الزمن.

يمكن تعريف المشكلة من ثلاث زوايا مختلفة :

الاولى: اعتبارها خلافا دينيا بحتا. سببه الوحيد او الرئيس هو شعور كل طرف بأن مذهبه هو الحق وان الاخر خاطيء او منحرف عن الطريق المستقيم. ويترتب على هذه الفرضية شعور كل طرف بالمسؤولية عن هداية الطرف الثاني الى هذا الحق، حتى لو اقتضى الامر قسره على سلوك الطريق المستقيم. طبيعة الفعل في هذه الحالة دعوي-هجومي. ويتحمل المسؤولية المباشرة في الغالب رجال دين او حركيون نشطون في المجال الديني.
الثانية: اعتبارها خلافا اجتماعيا ناتجا عن التزاحم بين دائرتي مصالح متمايزتين. ويظهر هذا خصوصا حين يخترق احد الطرفين المجال الاجتماعي الخاص بالطرف الثاني، من خلال التبشير او الاستقطاب السياسي/الثقافي. وابرز مصاديق هذا التعريف هو تحول الافراد الشيعة الى سنة او العكس، مما يثير القلق باحتمال تعرض البيئة الخاصة (اي دائرة النفوذ او المصالح) للتآكل، وفي اقل الاحتمالات اثارة الشك حول كفاءة هذا الطرف او شرعية نفوذه الاجتماعي. طبيعة الفعل في هذه الحالة دفاعي – سجالي يستهدف تسوير دائرة النفوذ من خلال المبالغة في اظهار حقانيتها او ابراز عناصر ضعف الطرف المنافس. وفي العادة فان قوى اجتماعية عديدة تشارك في تحمل المسؤلية في هذه الحالة، منها رجال الدين، والزعماء الحركيون وقادة المجتمع، فضلا عن الدولة.
الثالثة: اعتبارها رد فعل على الظلم او انعدام العدالة الاجتماعية (بحسب تعريف جون راول الذي يركز على توفر الفرص والمساواة). ويظهر هذا خصوصا في البلدان التي تقودها حكومات اوتوقراطية، او تفتقر  الى الضمانات الدستورية لحقوق الاقليات، او  تطبق حكوماتها نظاما لا يضمن العدالة في توزيع الموارد والفرص والالتزامات بين مختلف الطبقات او الاطياف الاجتماعية. طبيعة الفعل في هذه الحالة سياسي او سيكولوجي. يتخذ الاول شكل التمرد الجمعي، الهاديء او النشط، على النظام السياسي، بينما يتخذ الثاني شكل الانكار الفردي والانسحاب من الشأن العام، او ما يسمى احيانا بالاغتراب.
الواضح إن جميع التعريفات السابقة صحيحة، لكن اي واحد منها لا يصلح تعريفا وحيدا. كل من التعريفات الثلاثة يصلح لوصف حالة من حالات التنازع الطائفي او المذهبي. بعبارة اخرى فان التنازع الطائفي ليس مشكلة واحدة بطبيعتها واسبابها، بل هي في الحقيقة ثلاث مشكلات، تتفق جميعا على التمظهر في ثياب الجدل المذهبي او الطائفي. ونجد الاثر الحاسم لمحرك المشكلة او علتها في الغاية التي يسعى اليها كل فريق. لو اخذنا مثلا الحرب الاهلية اللبنانية التي اتفق على تصويرها كنزاع طائفي، فسوف نجد ان انتهاء الحرب لم يتحقق نتيجة حوار بين اهل الاديان والمذاهب التي شاركت فيها، بل باتفاق على اعادة صياغة النظام السياسي وتوزيع مصادر القوة بين الطوائف المختلفة. ومثل ذلك النزاع الحالي في العراق. فالذين يتناقشون حول حل الازمة ليسوا رجال الدين ولا قادة الفكر بل السياسيون، وهم لا يتطرقون الى النقاشات الدينية وادلة كل طرف على حقانية مذهبه، بل يتحدث كل منهم حول تصوره للحصة العادلة لجمهوره في سياسة البلاد ومواردها. نحن اليوم ابعد ما نكون عن منتصف العام الماضي 2006 حين وصف الرئيس المصري الوضع في العراق بانه حرب اهلية. ومن المؤكد أن هذا الاختلاف لم يكن ثمرة توافقات مذهبية بقدر ما نتج عن مساومات سياسية. حين يتوقف حل النزاع على تلبية مطلب محدد دون غيره، فهذا يعني ان ذلك المطلب هو علة النزاع وفاعله الرئيس، وان اتخذ صورا او عباءات او خطابات مختلفة. مثال العراق ومن قبله لبنان دليل على ان التنازع الطائفي ليس اختلاف مذاهب او اديان في كل حالاته.

مسار التحول:

أ) المسار المدرسي للمسألة المذهبية

ثمة ما يشبه الاتفاق على ان المذاهب الفقهية والعقيدية والطوائف الدينية، باشكالها التي نعرفها اليوم لم تكن موجودة في عصور الاسلام الاولى. وقد شهد التاريخ الطويل للامة الاسلامية ظهور العديد من المدارس في الفقه والعقيدة والفلسفة، بعضها اندثر، بينما تحول البعض الاخر وتطور من مدرسة او منهج الى جماعة، او بقي في اطاره المدرسي. وأرجع عدد من المؤرخين ظهور الفرق الدينية في الاسلام الى القمع السياسي. التيارات التي بدأت كموقف سياسي تحولت بالتدريج الى فرق دينية فرارا من بطش الدولة ( (E. Kohlberg, 1991، ويمكن ايضا ملاحظة ان بعض الدول المسلمة، في العصور الماضية والحديثة، قد اهتمت بتعزيز المذهب كوسيلة لتعزيز شرعيتها السياسية وتسوير المجتمع من تاثير المنافسين. ونجد في الصراع العثماني-الصفوي بعض الامثلة البارزة على هذا الاتجاه.
يمكن القول بكلام اجمالي ان التعدد السياسي كان حقيقة قائمة في معظم حقب تاريخ المسلمين. وكان الى جواره تعدد في الخيارات الفكرية او العقيدية او الثقافية، التي كان بعضها انعكاسا لاتصال المسلمين الاوائل بالاقوام الاخرى، وبعضها الاخر انعكاسا لتطور مفهوم المجتمع من الصورة البدوية القديمة الى الصورة الحضرية او شبه الحضرية، بما انطوى عليه هذا من تطور في العلم والثقافة والقيم الاجتماعية. ربما لا يذكر التاريخ الكثير من الامثلة على هذا التعدد في عقود الاسلام الاولى، لكن عصر الراشدين وما بعده شهد ظهور نماذج واضحة عن تيارات ذات قوام محدد سياسي او ثقافي. وشهدت السنوات الاخيرة من العصر الاموي تحول عدد من التيارات السياسية الى مذاهب في الفقه او العقيدة. وتبلور هذا الاتجاه بصورة اوضح في العصر العباسي، رغم ان السمات السياسية بقيت اكثر وضوحا من الدينية، وبالتالي فان تصنيف المذاهب والفرق كان اقرب الى السياسي منه الى الديني. واستمر هذا الحال حتى القرن العاشر الميلادي، حيث يظهر ان معظم زعماء الفرق قد حسموا امرهم باتجاه التخلي عن الربط بين المذهب والموقف السياسي لمعتنقيه، وعندئذ ظهر النموذج الاكثر اكتمالا للمذهب الديني الخالص، الذي يضم بالاضافة الى المدرسة الفقهية، منظومة اراء خاصة في الاعتقاد، وقدرا من التشكل الاجتماعي متمايزا عن الاخرين. ويجدر الاشارة الى ان الكثير من المراجع الرئيسية في الفقه والعقيدة لمختلف المذاهب الدينية، ترجع الى تلك الحقبة وما بعدها، وتحديدا بين القرن العاشر والرابع عشر الميلادي.
تبلور المذهب وتحولت مدرسته الفقهية او العقيدية الى قاعدة لنظام اجتماعي جديد له نظام قيمي وعلائقي، متمايز عما سواه. و قامت في ظله فلسفة حياة خاصة وفولكلور – ثقافة شعبية – ونظام مصالح مستقل على النمط القروي او على النمط الشمولي.
من المفهوم ان الجماعات المتمايزة، ولا سيما تلك التي تقوم في سياق هروبي (خوفا من القمع مثلا) تطور خطابا داخليا يمارس وظيفة حمائية. فهو يعظم من القيمة المعنوية للداخل ويبالغ في تحقير القيمة المعنوية لكل ما هو خارج النظام. كما يتضم منظومة متكاملة من الاشكالات الفرضية والرد عليها، هي أشبه بدليل عملي للسجال مع الغير. ومن البديهي ان يعمل النظام على استثمار عناصر التراث والتجربة التاريخية المشتركة مع الغير كاداة في السجال، وذلك باعادة تفسيرها على نحو يخدم النظام ويدعم موقفه في الصراع. وبحسب البروفسور نصر، فان الجماعات الدينية التي قامت في العالم الاسلامي لم تنكر التراث الذي يجمعها مع البيئة التي انشقت عليها، بل اعادت تفسيره على نحو يجعله مصدر تسويغ لخطابها. اذا طبقنا هذا التفسير على قيام وتبلور الاتجاهات السياسية/المذهبية، او المذهبية البحتة، فان التراث المشترك سيتحول الى مبرر للفرقة وعامل تفريق بدل ان يكون جامعا مشتركا وعنصر توحيد.
بعبارة موجزة فان سياق تبلور الجماعة السياسية/المذهبية او المذهبية البحتة– سواء كانت اقلية ام اكثرية – يقود عادة الى انشاء اطار ثقافي- حياتي جديد متمايز بالضرورة، بل ومعارض بالضرورة لكل ما هو خارجها.  وتتحول المكونات الثقافية لهذا الاطار الى وسيلة لبناء خلفية ذهنية خاصة تجمع بين اعضاء الجماعة في الوقت الذي تقيم جدارا بينهم وبين من هم خارجها. وهذا يشبه الى حد بعيد مفهوم الـبرادايم الذي اقترحه المفكر الامريكي توماس كون في نظريته المشهورة حول تطور المعرفة.
في ظل التمايز المشار اليه، فان النقاش بين المنتمين للجماعات/المذاهب المختلفة لا يعود مثمرا او مفيدا ولا يؤدي الى زيادة العلم او التقارب، لان الذين يدخلون السجال لا يستهدفون اكتشاف الحقيقة او التعارف او التفاهم، بل يستهدفون فقط وفقط افحام المنافسين او على اقل التقادير الدفاع عن الذات.
يتجلى هذا الموقف بصورة اكبر حين يبدأ كل طرف في الاعلان عن حدوده باعتبارها ايضا حدود الحقيقة وحدود الحق الذي يعني بالضرورة تصنيف خارج الجماعة باعتباره موطنا للزيف او الباطل، كما هو الحال في التوجهات التكفيرية القديمة والمعاصرة التي تتسلح بمفاهيم مشتركة مثل فكرة الدارين (دار الاسلام ودار الحرب) لكنها تدفعها باتجاه تصنيف حاد، يحصر الحق والحقيقة في اطار الجماعة ويتهم من هم خارجها بالمروق او الكفر .والتولي والتبري). يمكن في هذا الصدد عرض الخطاب السياسي لتنظيم “القاعدة” كمثال على هذا السياق من التطور، حيث يقول اسامة بن لادن في رسالة الى المسلمين بعد الهجوم على نيويورك في سبتمبر 2001:” هذه الأحداث قد قسمت العالم بأسره إلى فسطاطين: فسطاط ايمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر،  أعاذنا الله واياكم منه ” (7 أكتوبر 2001).

ب) المسار السياسي للمسألة المذهبية

رغم التمايز الواضح بين الحالات المختلفة للنزاع المذهبي/الطائفي، الا ان شيوع استخدام المذهب والطائفة كاطار للتنازع، يثير بذاته اسئلة حول واقعية الفصل بين الاطار والمضمون. ولهذا فقد يكون من الضروري معالجة هذا السؤال. وسوف اعرض هنا سياق تطور المشكلة منذ ان تولد، ثم تتبلور، حتى تظهر في المجال العام. الفرضية التي ننطلق منها هنا هو اعتبار التنازع المذهبي او الطائفي مدفوعا بمشاعر السخط على انعدام العدالة الاجتماعية، اي ضمن التعريف الثالث المذكور اعلاه:
كل مجتمع تنعدم فيه العدالة الاجتماعية، يمثل ارضية للنزاع الداخلي والانشقاق. لكن يجب الحذر من الافراط في الربط بين السبب والنتيجة. ثمة مجتمعات تفتقر الى العدالة لكن اعضاءها لا يشعرون بالحاجة الى التمرد او الانشقاق. قد لا يكونون بالضرورة راضين عن وضعهم، لكنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون الانشقاق سائغا او مفيدا. اما لان ثقافتهم تبرر هذا الوضع وتعتبره مقبولا او قدرا لا مفر منه، او لانهم يجدون وسائل لمعالجة المشكلة غير الانشقاق والتمرد. ولهذا فلا بد من القول ان ظهور النزعة الانشقاقية، يحتاج بالاضافة الى المبرر الاول، اي انعدام العدالة، الى عوامل اخرى مساعدة، هي :

  • فهم الأفراد أو الجماعة لهذا الظرف المحدد باعتباره ثمرة لبنية النظام الاجتماعي او السياسي المهيمن، وليس ظرفا عارضا. هذا الفهم هو بعبارة اخرى، تفسير للحالة في الاطار السياسي، يترتب عليه تحولها الى مبرر لفعل سياسي مضاد للتنظيم الاجتماعي او السياسي القائم. هذا الفهم يحتاج الى قدر من الكفاءة الفكرية والتنظيمية. المجتمعات التي لها تقاليد في العمل السياسي اكثر قدرة على تحويل الظرف المادي الاولى الى ظرف سياسي .
  • توفر ارضية ثقافية تتقبل الانشقاق وتعتبره خيارا مشروعا في حال انعدام وسائل اخرى اقل كلفة. المجتمعات التي تملك ثقافة عقلانية اكثر استعدادا لتقبل الانشقاق، بخلاف تلك التي تسودها ثقافة اسطورية او غير عقلانية تميل الى اختلاق مبررات وراء طبيعية لتفسير الظروف المختلفة، وهي اميل الى المحافظة على الوضع السائد. بقدر ما يرتفع المستوى الثقافي وتنتشر المعرفة بين اعضاء المجتمع، فانهم يصبحون اكثر قابلية للانشقاق.
  • توفر الامل بامكانية معالجة الظرف المعني عن طريق الانشقاق. نشير الى ان مستوى الامل يحدد حجم الانشقاق وتعبيراته واهدافه. انعدام الامل لا يمنع الانشقاق لكنه يحصره في اطار فعل فردي اميل الى الانكماش واعتزال الجماعة او الاغتراب. في المقابل فان توفر قدر كبير من الامل يوسع المساحة الاجتماعية للانشقاق، لكنه في الوقت نفسه يحد من عنفه ويجعله اميل الى القبول بانصاف الحلول. اخيرا فان وجود نطاق ضيق للامل يجعل الانشقاق اكثر عنفا، لكنه ايضا يحد من مساحته الاجتماعية الفاعلة. ونشير هنا الى دور النخبة الاجتماعية في تجسير الفجوة او تعميقها، فهي تلعب دورا فعالا في اقناع الجمهور بمستوى الامل المتوفر، في تحديد حجمه وقيمة تمثيلاته وتعبيراته.

اذا توفرت العوامل الثلاثة السابقة فان التفكير في الانشقاق سوف ينتقل الى مرحلة الفعل، وهو يبدا بتصميم الخطاب الذي سيخلق الاطار الاجتماعي ويشكل مبررا اخلاقيا للانشقاق. وفي هذه المرحلة بالتحديد يتجه الفرد (او مجموعة الافراد) الى التفكير في التصوير المذهبي/الطائفي كاطار ومبرر.
يترجح اتخاذ الاطار والخطاب المذهبي/الطائفي بالنظر الى عاملين، اولهما يتعلق بداخل الجماعة ويتمثل في قدرة هذا الخطاب على التعبئة والحشد وتوفير المشروعية، والثاني يتعلق بخارجها، وهو قدرته على ترسيم الحدود الجغرافية او الاجتماعية لموضوع المشكلة. فهو من هذه الناحية يسهم في اقامة دائرة مصالح جديدة، يتحدد على ضوئها الانصار المحتملون والاعداء المحتملون. ونعود هنا الى الاشارة الى ان كل مطلب اجتماعي وكل جماعة نشاط هي دائرة مصالح لها اعداء واصدقاء محددون ومحتملون.

لماذا اصبح المذهب وليس الحقوق المدنية اطارا رئيسيا للتعبير عن المطالب في العالم الاسلامي؟

في كل مجتمع هناك من يعي حقيقة ان ما يثير وجع الناس هو حرمانهم من العدالة وليس اختلافهم في المذهب. وربما عبر هؤلاء عن رفضهم لاختصار المسألة في الاطار الطائفي او نسبتها اليه. لكن الامر لا يتوقف عند قبول هؤلاء او رفضهم. صياغة المسألة وتحديد اطارها يرجع الى عوامل عديدة، من بينها دور عامة الناس الذين يميلون الى التفسيرات المبسطة والمألوفة، مثل التفسير الطائفي لمسألة العدالة، ومن بينها توجه الطرف الثاني (العدو المفترض) الذي يميل الى تحديد موضع المشكلة وحصرها في اطار خاص كي يسهل التعامل معه، ومنها فاعلية التراث الثقافي للجماعة في توليف مبررات وخلفية للخطاب ووسيلة تسوير للجماعة التي تقوده. دور عامة الناس هو بيضة القبان في هذه المسألة، فالتوافق الاجتماعي الضمني او الصريح على مسألة هو الذي يحدد مصيرها. ان قبول الناس للخطاب الطائفي يخلق بيئة مساعدة او ربما ثورية توفر المدد البشري والروحي والمادي للخطاب الطائفي. اما اذا رفضه الجمهور فانه على الارجح سيتحول الى حركة اقلية لا تاثير لها. السؤال اذن: لماذا يميل الناس الى قبول ودعم الخطاب الطائفي، رغم ان مطالبهم ليست في الغالب مذهبية او طائفية بالمعنى الدقيق، اي لا تستهدف اقناع الطرف الاخر بحقانية طريقهم او دفعه للتخلي عن مذهبه الخاص ؟. يمكن في هذا الصدد الاشارة الى تفسيرين محتملين، اولهما يركز على تفجر الهويات الاثنية في العصر الحديث، بينما يركز الثاني على مشكلات عدم التكيف.

مسألة الهوية :

كثير من الباحثين الغربيين الذين راقبوا تفجر الصراعات القومية والمذهبية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، مالوا الى تفسيرها كتعبير عما وصفوه بانفجار الهوية. ويقدر عدد المجموعات الاثنية التي عبرت عن نفسها سياسيا بما يزيد عن 3000 في مختلف انحاء العالم، مقارنة بنحو 900 مجموعة في اواخر سبعينات القرن العشرين. ويقدر عدد الحركات الانفصالية التي قامت في هذا الاطار بنحو 600 حركة خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
وخلاصة هذا التفسير ان مجموعات متمايزة اثنيا اضطرت سنوات طويلة الى كبت هويتها او خضعت لادماج قسري في ثقافات اخرى مهيمنة، او انها لهذا السبب او غيره كانت غافلة عن هذه الهوية ودورها في تشكيل رابطتها الاجتماعية وشخصيتها المتميزة. لكن مع زوال الهيمنة – بتفكك الدولة السوفيتية مثلا -، او بسبب انفجار ثورة المعلومات والاتصال (انتشار التلفزيون الفضائي، الانترنت، التلفون المحمول) او بسبب انتشار مفاهيم حقوق الانسان والحريات الشخصية والمدنية والمشاركة، او لهذه الاسباب مجتمعة، اكتشفت تلك المجتمعات ذاتها الخاصة، او اكتشفت انها تتعرض للتمييز او قلة التقدير لان الاخرين لا يعاملون اعضاءها كمواطنين متساوين مع البقية في الحقوق والواجبات، بل كجزء من جماعة مختلفة، كما هو حال المسيحيين واليهود في بعض البلاد المسلمة والاكراد في البلدان العربية، والشيعة في البلدان التي اغلبيتها سنية والسنة في الاقطار ذات الاكثرية الشيعية وهكذا.
من هنا فان اكتشاف الذات والمطالبة بالمساواة اتخذ في احد وجوهه صورة التركيز على الذات ومحاولة ابراز الحدود الفاصلة بينها وبين الاخر. وهذا بطبيعة الحال عامل هام في تعيين حدود المشكلة ومبرراتها، كما انه العامل الابرز لحشد القوة الداخلية.
هذي هي خلاصة الفكرة التي تنظرالى الصراعات القائمة كتعبير عن انفجار الهوية. وهي تشير ضمنيا باصبع الاتهام الى الدولة كمذنب في تاخير او اعاقة الاندماج الوطني وتعميق الهوية الواحدة. واظن ان كثيرا من الناس سيميلون الى هذا التفسير لبساطته وامكانية تطبيقه على العديد من الوقائع. بناء على هذا التفسير فان اصحابه يركزون على الحاجة للاقرار بالتنوع والتعدد وقبول الاخر كما هو، وبناء النظام السياسي على اساس توافقي او تعددي، كما هو في مثال العراق ولبنان.

مسألة التكيف :

يعتمد هذا التفسير على النظرية التي اقترحها دانييل ليرنر في كتابه الشهير.
The Passing of Traditional Society: Modernizing the Middle East (Macmillan 1958)
عالج ليرنر انماط الحياة التقليدية وانعكاساتها على سلوك الفرد سعيا وراء تفسير للصعوبات التي تواجه التنمية السياسية في المجتمعات التقليدية. وتوصل الى ان ابرز سمات المجتمع الحديث هي قابلية الفرد للتكيف وانشاء تفاهم او علاقة مصلحة مع الغير بغض النظر عن وحدة انتمائهما الاجتماعي او معرفته السابقة به. كما لاحظ ان المجتمعات التقليدية هي انظمة علاقات مغلقة. يقيم الفرد علاقات مع الاشخاص الذين يجمعهم معه انتماء اجتماعي او علاقة سابقة، مثل علاقة النسب او المعرفة منذ الصغر، بينما يصعب عليه ايجاد علاقة تفاعلية مع الاشخاص الجدد. احد الفوارق المهمة بين القرية – حيث يسود نمط الحياة التقليدي -، والمدينة التي يسودها نظام علاقات حديث، هو ان المدينة مكان لعلاقات مستحدثة دافعها هو المصلحة المادية او التوافق الفكري او الروحي. يعتقد ليرنر ان المجتمعات التقليدية تعاني عموما من صعوبة في التكيف مع التغييرات الثقافية والاجتماعية، وان هذا العجز يرجع في جوهره الى عامل ثقافي، خلاصته انعدام التعدد والتنوع والميل الشديد الى التشابه والتوحد في الثقافات التقليدية. وهو ما يتبلور في صورة ذوبان كامل للهوية الفردية وهيمنة تامة للهوية الجمعية. عملية التوحيد هذه تنعكس على صورة ارتباط مكثف للفرد ببيئته الاجتماعية الخاصة ارتباطا يميل الى تقديسها او اعتبارها اطارا وحيدا للحق والاستقامة والفضيلة، وارتياب في البيئات الاخرى، او تساهل في اعتبارها ادنى مرتبة عند المقارنة ببيئته الخاصة، وينتج عنه عجز في التفاعل مع الاخرين الذين ياتون من بيئات مختلفة.
تفسر هذه النظرية اسباب فشل المجتمعات التقليدية في تطوير هوية قومية جامعة تندرج في داخلها مختلف المجموعات التي يتشكل منها المجتمع الوطني الواسع. ومع انها لا تشير الى الاقليات كمسؤول مباشر عن فشلها في الاندماج ضمن الهوية الوطنية، الا انها تساعد في فهم العوامل الثقافية المعيقة لاندماج الاقليات، سواء كانت هذه العوامل كامنة في ثقافة الاقلية او في ثقافة الاكثرية.

الإطار السياسي للمشكلة:  مسألة الاقليات

ثمة علاقة وثيقة بين التوتر المذهبي او الطائفي وبين مسألة الاقليات. فغالبا ما يثور التوتر في البلدان التي يتنوع مجتمعها مذهبيا او عرقيا او ثقافيا. ونقصد بالاقلية معناها السياسي، اي الشريحة التي تحصل على حقوق ادنى قليلا او كثيرا من المستوى المتوسط لبقية المجموعات في نفس البلد. لا بأس بالاشارة هنا الى التقديرات القائلة بان عشرين دولة فقط من بين 180 دولة في العالم تضم سكانا من قومية ومذهب واحد، اي لا توجد فيها اقليات. ولهذ السبب فان مسألة الاقليات لم تعد هامشية او مؤجلة في عالم اليوم، لان وجودها اصبح سمة عامة في اقطار العالم. صحيح ان وجود الاقلية ليس مشكلة ولا يولد مشكلات في اكثر اقطار العالم، لكنه على اي حال يمثل احتمالا يستدعي التدخل المبكر للحيلولة دون ظهور المشكلة او تفاقمها.
من هذه الزاوية فان التنازع المذهبي/الطائفي لا يستمد وقوده من الوصف الديني او المذهبي للاقلية، بل من كون الجماعة اقلية تعامل على نحو مختلف عن بقية المواطنين. او بعبارة اخرى لان اعضاءها لا يعاملون كمواطنين اعتياديين بل كاعضاء في اقلية مصنفة اجمالا في موضع ادنى من بقية شرائح المجتمع. هذا التعامل المهين هو العامل الرئيس في تحول وجود الاقلية الى فرصة للانشقاق او التنازع.
اذا قارنا التجربتين المعاصرتين للولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي، فسوف نجد ان المجتمع الامريكي قد شهد صراعات اقل بكثير مما يتوقع من مجتمع تألف من عشرات الاقوام التي هاجرت اليه بثقافاتها وانتماءاتها المختلفة، لكنها شكلت دولة قومية منسجمة يربط بين اجزائها اتحاد متين. ولا زلنا نجد اليوم ملايين من البشر من شى الانتماءات والثقافات يسعون للهجرة الى هذا البلد والاندماج فيما يعرف بالحلم الامريكي. وعلى النقيض من هذا فان الاقوام التي شكلت ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي قبل 1991 اختارت جميعا الاستقلال والانفكاك من الوحدة القسرية فور احساسها بالقدرة على الخروج من تحت عباءة الدولة المهيمنة.
هذا المثال بذاته يقودنا الى الجواب على سؤال: لماذا ومتى تصبح الهوية مبررا او اطارا للازمة. عودا على المثال الامريكي، نشير الى انه حتى منتصف الستينات من القرن العشرين كان وضع الافارقة الامريكيين واحدا من ابرز اسباب النزاع والتوتر في هذا المجتمع. ونعرف ان سببه هو نظام الرق القديم الذي كرس اعتبارهم – حتى بعد الغاء الرق – مواطنين من الدرجة الثانية. منذ قيام حركة الحقوق المدنية في منتصف الستينات، شهدت الولايات المتحدة محاولات حثيثة وجادة لفرض المساواة بين السود والبيض وتعزيز فرص الاندماج الاجتماعي بغض النظر عن الاختلاف العرقي. رغم ان وضع السود الامريكيين ما يزال بعيدا عن الكمال المنشود، الا ان التحسن الكبير في ظروف الحياة، ولا سيما الضمانات القانونية للحصول على حقوق وفرص متساوية، قد قلص كثيرا من قدرة الاختلاف العرقي على توليد نزاعات داخلية او نزعات انفصالية.
هذا المثال يكشف عن حقيقة ان التمايز الاثني، اي احتواء المجتمع على مجموعات تختلف هوياتها التاريخية او الثقافية او العرقية، يمكن ان يوفر فرصة للانشقاق والتوتر. لكن تحول هذه الفرصة الى انشقاق فعلي، وعلى وجه الخصوص اتخاذه اطارا اقلاويا – طائفيا او عرقيا – رهن بانعدام العدالة الاجتماعية، بالمفهوم الذي اقترحه جون راول، اي انعدام الخيارات والفرص المتساوية.

دور النظام السياسي في اطلاق او تثبيط التوتر

بين بدايات القرن العشرين ونهاياته تغير مفهوم الدولة والسياسة. وفي نهايات القرن خصوصا تغير فهم المجتمعات لنفسها وعلاقتها بالغير. من المفهوم ان هذه التغيرات كانت ثمرة لعوامل عديدة، تمتد من الحروب الاهلية والدولية الى شيوع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان، مرورا بانفتاح الاسواق وغيرها. من ابرز ما تغير في هذا الاطار رؤية الجمهور لعلاقته بالدولة. في الماضي كانت الدولة مكثفة في الحاكم، وكان الحاكم هو رب البيت، فاذا تغير تغير البيت معه. تختصر مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر “الدولة هي انا” واقع الحال في الاكثرية الساحقة من اقطار العالم. ولعلنا نتذكر ما نقله مؤرخو العالم الاسلامي عن تحول الناس عن الدين او المذهب الغالب في بلدهم اذا صعد الى الحكم ملك يتبع مذهبا مختلفا. يمكن القول بكلام مجمل ان الخضوع والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع دولته.
منذ أواخر القرن السابع عشر شهدت اوربا تغيرا تدريجيا في هذه العلاقة، تغذى على الافكار السياسية الجديدة التي اطلقها فلاسفة عصر النهضة، كما اكتسب زخما اضافيا بسبب الحروب الاهلية والنزاعات الدينية والحركات الثورية، لا سيما الثورتين الفرنسية (1789) والامريكية (1783). جوهر التغير المذكور هو تحول صفة الدولة من حاكم فوق الشعب الى حكم بين افراد الشعب، كما اصبحت ممثلا للمجتمع تستمد سلطتها منه. وترتب عليه نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد سلطتها واعتبارها مسؤولة عن اعمالها وعما يجري اجمالا في الاقليم السياسي الذي يخضع لسلطانها. وصل التغيير في الدول الصناعية الى مرحلة متقدمة من النضج حيث ترسخت مفاهيم مثل الحقوق الطبيعية والمدنية والمساواة بين المواطنين، وحاكمية القانون وكون الدولة ضامنا للحقوق الدستورية لكل مواطن. ولهذا فان الاختلاف المذهبي او الديني بين ابناء الوطن الواحد لم يعد مشكلة او مولدا لمشكلة. فعدا عن الحق الاولي في المساواة بين الافراد بغض النظر عن معتقداتهم، فان النظام السياسي يوفر آليات قانونية محددة وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.
اتخذت الامور في العالم الاسلامي مسارا مختلفا. فبعد استقلال اقطاره، هيمنت على الحياة السياسية طبقات تقليدية تنظر الى الدولة والمجتمع من ذات الزاوية وفي نفس الاطار القديم الذي ساد في مرحلة ما قبل الاستعمار، اي اعتبار الدولة هيئة مستقلة عن المجتمع تتمتع بسلطات مطلقة. لا يمكن بطبيعة الحال افراد النخب الحاكمة باللوم على ما جرى. فالمجتمعات المسلمة وقادة الراي من اهلها يتحملون نصيبا من اللوم على افتقارها الى ثقافة سياسية تعلي شأن الانسان الفرد وحقوقه، وتسمح بالتفكير في سلطة تمثيلية منبعثة من المجتمع.
على أي حال فان النظام السياسي الذي ساد الاقطار المسلمة منذ اوائل القرن العشرين وحتى اليوم بقي مشوبا بالكثير من الاختلالات والعيوب فيما يخص العلاقة الداخلية بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، وكذلك العلاقة بين المجتمع والدولة. ونشير في هذا الصدد على سبيل التمثيل فقط الى فكرة ملكية الارض كمصدر للحقوق السياسية. فالمفهوم ان الدولة – ايا كانت صفتها – لم تخلق البشر ولا ارضهم، وهي لم تجلب هؤلاء المواطنين من اماكن اخرى وتعمر ارضهم وتسكنهم فيها. بعبارة اخرى فان الارض التي تخضع لسلطان الدولة هي ملك اصلي للذين يعيشون فوقها. وبموجب هذا الملك فانهم وحدهم اصحاب الحق في ادارة مواردها والتصرف فيها. الدولة لا حق لها في اي شيء من تلك التصرفات الا اذا اتفق اولئك المالكون على تفويضها هذا الحق. ملكية الارض اعلى واسبق – من حيث قابليتها لتوليد حقوق التصرف – من الدين والقانون والتوافقات، وانما تصبح احكام الدين والقانون سارية اذا وافق المالك على الخضوع لها. اشرنا الى هذا المثال دون غيره لبيان ان حقوق الاقلية مثل حقوق الاكثرية نابعة من كونها مالكة للارض او شريكة في ملك الارض ومواردها. ومن هنا نقول بان الدعوة للمساواة والعدالة في توزيع الموارد، ليست مجرد دعوة اخلاقية او ضرورة سياسية، بل هي اولا وقبل كل شيء تعبير عن حق اصلي ثابت سابق للدولة والدين والقانون، وانما تاتي القوانين والاحكام لتنظيم القيام بهذا الحق وتمكين كل فرد من ان يحصل على نصيبه العادل منه .
الذي حصل على اي حال ان المجتمعات المسلمة سارت في اتجاه آخر يغفل ملكية الناس لأرضهم، بل ويعتبرها – صراحة او ضمنا – ملكا للدولة المستقلة عن المجتمع والحاكمة فوقه. وانطلاقا من هذا الفهم اهملت الدولة المسلمة مسألة العدالة في توزيع الموارد. في بعض الحالات وجدنا المدن الكبرى تستأثر بمعظم خيرات البلد ولا ينال الارياف سوى الفتات. وفي بعض الاحيان وجدنا طبقات محددة او طوائف او قبائل تفعل الشيء نفسه تحت نظر الدولة وحمايتها وتشجيعها احيانا. في الوقت نفسه فان النظام الدستوري لمعظم الاقطار الاسلامية لم يكن مفتوحا ومرنا يسمح بالتغير والتطور من داخله، او متفاعلا مع المجتمع وهمومه ومطالبه.
في العقد الاخير من القرن العشرين شهد العالم كله نهوضا استثنائيا اثمر عن ثورة في الوعي الفردي بالذات الفردية والجمعية، وتوفرت ادوات المقارنة بين واقع الحال في كل بلد مع البلدان الاخرى. ونتج عن هذا وذاك انكشاف العيوب البنيوية في النظام السياسي لكل بلد، وبدأ الناس يفهمون الظلم الواقع عليهم باعتباره نتاجا لبنية النظام وليس ظرفا عارضا.
يوضح هذا التصوير ان المشكلة الجوهرية هي انعدام العدالة الاجتماعية. لكن السؤال الذي يعود مرة بعد أخرى هو: لماذا اتخذ التعبير عن الانشقاق والانكار على الدولة اطارا مذهبيا/طائفيا ؟. ولماذا اتجه جانب من الزخم لمصارعة الشرائح الاخرى في المجتمع التي لم تكن هي الاخرى احسن حظا من تلك الغاضبة؟.
الجواب على ذلك يكمن في موضوع الهوية الذي اشرنا اليه في صفحات سابقة. فالخطاب الطائفي اقدر على استثمار التراث الثقافي للجماعة في توليف مبررات وخلفية للخطاب ووسيلة تسوير للجماعة التي تقوده. وهو الاقدر على جلب قبول الجمهور، وبالتالي خلق بيئة مساعدة او ربما ثورية توفر المدد البشري والروحي والمادي للدعوة السياسية. في الحقيقة فان عناصر القوة هذه متوفرة في الطرفين، فالدولة ايضا استعملته لتحديد موضع المشكلة ولتعزيز البيئة الاجتماعية الموالية لها من خلال عرض المشكلة كما لو كانت تمردا من تلك الجماعة على هذه الجماعة. بكلمة اخرى فان الذي ولد المشكلة ليس التمايز الطائفي بل التمييز الطائفي. ولدينا الكثير من الامثلة المعاصرة التي تظهر ان الاطار الطائفي كان واحدا من الادوات التي استعملت للتعبير عن المطالب السياسية/الاجتماعية. وفي الحالات التي لم يكن هذا الاطار فعالا، استخدمت اطارات تؤدي نفس الغرض. فلو لم يكن لدينا مذاهب لظهرت نفس النزاعات ولكن تحت عناوين بديلة. كمثال على ذلك، فان الاكراد العراقيين (السنة) حلفاء للشيعة العرب وليس للسنة العرب، كما ان الجماعات السلفية المتطرفة في الجزائر تقاتل الجزائريين السنة وليس الشيعة. وفي السودان تحالف مقاتلو دارفور المسلمين مع الجنوبيين المسيحيين او الوثنيين ضد المسلمين الحاكمين في الخرطوم، واتخذت باكستان وكثير من الدول الاسلامية موقفا مؤيدا او متغاضيا عن الاجتياح الاطلسي (المسيحي) لافغانستان ضد طالبان (المسلمة). ونعلم ايضا ان ايا من الدول الاسلامية لم تعترف بجمهورية قبرص الشمالية التركية (المسلمة) حفاظا على علاقتها مع اليونان والقبارصة اليونانيين (المسيحيين). وفي لبنان هناك على جانبي الصراع اطراف شيعية وسنية ومسيحية، وبعضها يصنف كحركات دينية. ويمكن جرد عشرات الامثلة على هذا عن مجتمعات اسلامية كثيرة.

مقترحات لمعالجة المسألة الطائفية

اشرنا في بداية هذه المقالة الى ان الخلاف بين الشيعة والسنة يستمد وقوده احيانا من مبررات  دينية/مذهبية واجتماعية، فضلا عن المبررات السياسية التي شرحناها بالتفصيل في الصفحات السابقة. ونزيد هنا ان كلا من تلك المبررات يتطلب معالجة خاصة هي الوجه المقابل لبيان العلل والاسباب. كما انه يولد مسؤلية على شريحة معينة من شرائح المجتمع بدرجة اكبر من غيرها. يمكن تصور العلاج على واحد من ثلاثة مسارات، وربما يتطلب الامر العمل على مجموع هذه المسارات :

المسار القانوني – السياسي:

في اعتقادي ان الحل الحاسم للنزاع المذهبي، هو ذاته الحل الذي جرب في كثير من اقطار العالم كعلاج للنزاعات الاهلية. وهو على وجه التحديد توفير قنوات المعالجة السياسية للمشكلات من خلال التمثيل العادل للاقليات والجماعات الاثنية في النظام السياسي وتوفير القنوات السياسية والدستورية لمعالجة الشكاوى والمشكلات.  بلدان العالم الاسلامي التي تعاني من انشقاقات على خلفية دينية او مذهبية او أثنية، هي في الوقت عينه بلدان يشكو اهلها من انعدام العدالة الاجتماعية، أو انعدام المساواة في الفرص والحقوق والالتزامات.
كل مجتمع في اي بقعة من العالم ينطوي على انقسامات او امكانية للانقسام.  كل واحد من هذه الانقسامات يمكن ان يستخدم مبررا للنزاع. تصنف الانقسامات الاجتماعية الى صنفين رئيسيين: أ) الانقسامات العمودية، اي التمايز بين الناس بحسب الهويات التي يرثونها مثل النسب العائلي والقبلي والاقليمي والعرقي، وكل هوية لم يكتسبها الانسان بوعيه بل اصبح جزءا من اطارها الاجتماعي يوم ولادته.  ب) الانقسامات الافقية، اي التمايز بين الناس بحسب خياراتهم الواعية في مراحل الرشد العقلي. مثل الانقسامات الطبقية والايديولوجية والسياسية. الانقسام المذهبي او العرقي كما هو وضح ينتمي الى النوع الاول وهو سمة عامة في المجتمعات التقليدية.
ويتمايز الانشقاق بين ضعف وشدة بحسب توفر وسائل تثبيط المنازعة، سواء من جانب الدولة او من جانب المجتمع. هذه الوسائل قد تكون مصادر مالية وقد تكون مؤسسات دستورية او سياسية. يمكن للمال ان يلعب دورا فعالا في تبريد التوترات الناشئة عن احباطات سياسية. كما ان توفر مؤسسات سياسية مثل الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني يمكن ان يساهم بفعالية في عقلنة المطالب وتحويل اتجاهات التوتر من الاطارات المذهبية والاثنية الى الاطارات المدنية القانونية، وبالتالي الفصل بين موضوعات التوتر (وهي معيشية او سياسية غالبا) وبين مصادر التثوير الطائفي او الاثني (اي التراث الخاص بالجماعة). يمكن للمؤسسات الدستورية مثل البرلمان والقضاء ان تلعب ايضا هذا الدور وتخدم نفس الغاية.
تستطيع المؤسسات السياسية والدستورية لعب هذا الدور اذا كان النظام السياسي/الاجتماعي تعدديا يتقبل وجود مصالح متباينة وتوجهات مختلفة ويتعامل معها ايجابيا. وفي ظل نظام كهذا فان منظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية وكذلك مؤسسات الدولة الدستورية كالقضاء والبرلمان، يمكن ان تلعب دورا مؤثرا في معالجة التوترات ذات الوجه الاثني بتحويلها الى توترات مطلبية مدنية.
ومن المهم ايضا مساعد ة الجماعات الاثنية على التمثل بصورة منصفة وفعالة في النظام السياسي، حتى يشعر الجميع بان الدولة دولتهم وليس دولة الاخرين المهيمنة عليهم.

المسار الاقتصادي

في معظم الحالات التي نعرفها فان الاحباطات السياسية هي انعكاس لاحباطات معيشية واقتصادية، سببها الرئيس عدم التوازن في توزيع الموارد الوطنية او تباطؤ الجهود التنموية للدولة في مناطق الاقليات. وثمة ادلة كثيرة على هذا المدعى في تجربة العراق وايران والسودان والباكستان وبعض دول الخليج ولبنان قبل 1975.
في السنوات الاخيرة جرب عدد من الدول مثل الصين اقامة ما يوصف بشبكة الحماية الاجتماعية، وهي إطار قانوني ومنظومة من الاجراءات التنفيذية غرضها مساعدة المناطق الاكثر فقرا على النهوض والوصول الى مستوى مقارب لمتوسط النمو الاقتصادي على المستوى الوطني. كما يتضمن نوعا من التمييز الايجابي الذي يستهدف حماية الفقراء من الانعكاسات السلبية للحراك الاقتصادي السريع في المناطق الاكثر ازدهارا. ويمكن القول في الاجمال ان تحقيق قدر معقول من التوزيع العادل للموارد، والتنمية المتوازنة، سوف يعزز الامل في حياة افضل من خلال النظام الوطني وليس بالانشقاق عليه. هذا الامل هو البديل الطبيعي عن التوجهات الانشقاقية، سواء كانت خلفيتها مذهبية او غيرها.
يجب الاشارة الى ان المسالة الجوهرية في كلا المسارين السياسي والاقتصادي هي توفير اكبر قدر ممكن من الفرص والخيارات امام الافراد. وجود فرص كافية او عادلة يدفع بالافراد الاكثر طموحا الى ابتكار وسائل لمعالجة مشكلاتهم من خلال ادوات النظام القائم وضمن قنواته، بدل الانشقاق عليه. الامر الذي يقلل من الحاجة الى استنهاض الخصائص الذاتية للجماعة واستعمالها كوقود في الانشقاق.

المسار الثقافي:

يعالج هذا المسار بصورة محددة “ذهنية الانفصال والانقطاع” التي يتضح الان انها سمة شخصية عامة في مثل مجتمعاتنا. هوية الفرد في هذه المجتمعات لا زالت غير محددة، او انها تنطوي على تكوين غير منسجم بسبب التربية الممزقة والمتعارضة. حتى التربية المدرسية تنطوي على توجيهات متناقضة وقد لاحظ باحثون خلال السنوات الاخيرة ان مناهج التربية الدينية في المدارس السعودية مثلا تركز على محورية الدين (في نسخته السنية الحنبلية) كمكون وحيد لهوية الطالب، وهي تنفي – ضمنيا –  الانتماء الوطني باعتباره مخلا بنقاء الايمان. بينما تتركز التربية المنزلية حول الانتماء المذهبي او القبلي للطالب كبديل عن الاول ومواز للثاني، وتركز وسائل الاعلام على الانتماء الوطني كمكون وحيد للهوية متعارض احيانا مع الانتماء الاثني او المذهبي. في العراق مثلا تركز التربية المدرسية على الانتماء القومي العربي، وهو الامر الذي ولد احساسا فوقيا عند العراقيين العرب تجاه العراقيين الاكراد.
مصدر هذه المشكلة في ظني هو افتقار تراثنا الثقافي الى صياغة صحيحة لمفهوم “الوطن”. نعرف بطبيعة الحال ان الوطن كفكرة عامة موجود في تراثنا القديم، لكنه مختلف عن المفهوم المعاصر الذي نتداوله والذي يطابق ما يعرف بالدولة القومية. الوطن في مفهومه المعاصر هو الرابطة التي موضوعها الموارد المادية المشتركة بين جميع سكانه، اي الملك المشترك بينهم بغض النظر عن انتماءاتهم. ونعرف ان الملك هو اقوى مصادر الحق. ضمن هذا المفهوم فان كل فرد مالك وذو حق في وطنه، حق لا يمكن سلبه ولا عزله ولا انكار ما يترتب عليه، سواء كان المالك متفقا او مختلفا مع البقية، وسواء كان طيبا او فاسدا، حسنا او قبيحا. لقد دخل هذا المفهوم الى ثقافتنا بعد اتصالها بالثقافة الاوربية ولم يجر تنسيجه حتى اليوم ضمن الثقافة الاسلامية والشعبية السائدة.
بسبب ضبابية هذا المفهوم وعدم اندراجه في الثقافة العامة، فان التوجيه الديني والاخلاقي ما زال منفصلا، واحيانا متباينا، عن التربية الوطنية. بعبارة اخرى فان الدعاة الدينيين ومعلمي المدارس والاباء يوجهون الافراد الى علاقة قائمة على التماثل القيمي والاخلاقي. فالصديق الجيد هو الصديق الذي يتحلى بصفات مماثلة للداعي والمربي، ومن عداه فهو غريب .
ثمة كثير من الكلام في الكتب المدرسية الجديدة وفي وسائل الاعلام – لا سيما الرسمية منها – حول الوطن. لكن الصورة العامة التي تقدمها هذه المصادر هي صورة الوطن الرومنسي الذي يستوجب الولاء والتضحية وليست صورة الوطن الواقعي الذي هو شراكة مصالح. وبسبب التفاوت الفضيع القائم بين ما تحصل عليه الطبقات القريبة من قمة السلطة والاكثرية البعيدة عنها، فان التضحية المشار اليها مطلوبة فقط من الطبقات الدنيا، اما الاعلون الذين يجنون اللباب فلا يتوقع منهم التضحية ولا هم مستعدون للتضحية. فالصغار والفقراء هم الذين يموتون في الحروب وهم الذين يقدمون العون للضعفاء  وهم الذين ينافحون عن وطنهم، رغم انهم الاقل استفادة منه. سيادة ذلك التصوير الرومنسي للوطن وغياب التصوير الواقعي هو نتاج لافتقار ثقافتنا العامة وتراثنا الى اطار مناسب لتقعيد فكرة الوطن وتنسيجها.
اذا اردنا حل هذا الاشكال فيجب ترسيخ فكرة ان الفرد هو مواطن وشريك لبقية المواطنين، وان التباين في القيم والاخلاقيات والمتبنيات العقيدية وغيرها هي مجرد اضافة وليست قيمة اصلية تتقرر على ضوئها العلاقة بين المواطنين. الوطن ليس مجرد تصوير جمالي او امنية، بل هو اولا وقبل كل شيء شراكة قائمة ومفتوحة يتساوى فيها الجميع، في مغانمها وفي مغارمها.

تراث الفرقة :

ويقودنا هذا الى مسألة لا تقل اهمية، الا وهي تمحور جانب كبير من خطابنا الديني حول ما يمكن وصفه بتراث الفرقة. اشرنا فيما سبق الى ان الحكومات والجماعات الدينية والاثنية قد اعادت تفسير التراث المشترك على نحو حوله الى مبرر للفرقة. ونزيد هنا ان هذا التراث هو اليوم المادة الرئيسية واحيانا الوحيدة للتوجيه الديني. معظم الذين يتحدثون في الدين، سواء على المنابر او في اجهزة الاعلام، يتخذون من ذلك التراث محورا لحديثهم. وهو امر يؤدي بالضرورة الى تكريس ذهنية الانقطاع التي اشرنا اليها. وبسبب سيادة هذا المنهج فقد ساد ما يمكن وصفه بذهنية عامة تنكر اي محاولة لردم الفجوات بين اتباع المذاهب والاثنيات المختلفة. وشكلت هذه الذهنية حاجزا شديدا يمنع القادة الدينيين من مراجعة تراث الفرقة او نقده او تجاوزه. كثير من المفكرين والقادة الدينيين يعانون اليوم من قهر العامة الذين يرفضون اي تعديل في ذلك المسار الخاطيء ونذكر ان بعض اولئك المفكرين والقادة قد تعرضوا للقمع الاجتماعي عندما حاولوا الخروج من الصندوق الطائفي أو مراجعة محتوياته.
لهذا السبب فإنه لا يمكن الاقتصار على الجانب الثقافي في معالجة التأزم الطائفي. مادامت مصادر التأزم السياسية والاقتصادية قائمة، فإن محاولات العلاج الثقافي سوف تلقى على الارجح اذانا صماء. في ظني ان العلاج الثقافي سيكون فعالاً إذا اكتشف الجميع مصلحة مادية ملموسة وقريبة المنال في الشراكة الوطنية. وهذا يعيدنا الى المسارين السياسي والاقتصادي. لا يسع الموجهين الدينيين فعل شيء ذي شأن ما لم تبدأ تاثيرات المسارين السياسي والاقتصادي في الظهور، أعني في معالجة مصادر المشكلات ولا سيما الإحساس بالظلم. مثل هذا التطور سوف يمتص خزان الزيت الذي يبقي نار الانشقاق مشتعلة. لا يمكن فصل المطالب المدنية الحياتية عن مصادر الوقود الطائفي الا اذا اتجه الوضع الاجتماعي العام الى الارتخاء، وهذا بدوره لا يتحقق الا اذا شعر عامة الناس بوجود امل قوي في اصلاح الامور، سواء على الجانب الاقتصادي او السياسي. اذا تحقق الارتخاء السياسي والاجتماعي فسوف يكون الناس اكثراستعدادا وقابلية لنقد تراثهم وتصوراتهم عن ذاتهم وعن الغير، ولن يتهم – حينئذ – اي مصلح بانه يساوم على المعتقدات او يساوم في المبادئ.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.