الحلقة الثامنة: الحروب الأهلية جريمة أممية

حلقة 8
  • فلا بد من التبصر في عواقب الأمور وأزمَّتها والأيدي مقبوضة، والنفوس مروَّضة، وليس ثمة أفضل من مجالس الشورى إن كانت مؤهلة ومخلصة وممكَّنة، فقد كانت قريش تعقد مجلسها في دار الندوة أيام جاهليتها، ولما تبصروا أن منهم من يزداد مع الأيام ثراءً بالتجارة، وبعضهم يظل في فقره أو يزداد فيه، خافوا حدوث طبقية فاحشة في الأحرار، تجعل المقلين منهم مع العبيد على سواء.

  • عندما نقيم عرشا للطائفية الدينية فإننا نحفر الأرض قبورا دفينها ليس سوانا، والشواهد ماثلة لذي عينين، فالقاتل والمقتول يصلى عليهم، وتقرأ لهم الفاتحة، ويعظّم لذويهم الأجر، ويسأل الله لهم الصبر والسلوان، ويبشرونهم بالجنة! أوليس في هذا دلالة على أن في الأمر ضلالة؟

إن سنة التدافع سنة عظيمة، ينبغي على الأمم أن تحافظ عليها، والتي لا تعني سوى التسامح بين الأطراف المتعايشة. والمؤاذنة بممارسة ما قد يكرهه بعضهم ويراه خطأ. بينما يراه آخرون رشداً. مما يحفظ للمختلفين وجودهم . وهو ما سمته الحضارة الغربية بالديمقراطية.

إن التدافع هو سنة ربانية حاكمة. تقوم على ما أراده الله سبحانه من حق كل فئة مختلفة في الوجود. لأن في هذا التنوع تحققا لإرادة الله، في التعارف بين الشعوب والقبائل. ومن ثم فتح الطريق للإيمان نحو التبليغ والبيان. لأن هذا هو بيت القصيد من الحياة الدنيا، ابتداء من آدم وحتى القيامة. ومحاولة الوقوف في وجهها أولاًَ مدمرة. وثانياً فاشلة.

إن سنة التدافع تسمح ببقاء الآخر، وفي نفس الوقت تسمح بذهابه وذوبانه. وبالتالي تسمح بالمعايشة والتقدم في آن معا، وبطرق سلمية، والوقوف في وجه هذه السنة بالانقلاب عليها، والأخذ بالاستبداد بديلاً عنها، لهو من دواعي هلاك الأمم. فانظر في التاريخ الديني والسياسي تجد أن الأمم المستبدة إما أن تدمر نفسها. أو تذوي بالاستبداد فيقهرها غيرها. أو يبيدها الله بعذاب منه إن كان الاستبداد في وجه نبوة.

ولعلك لا تجد أمراً قد أعادت البشرية تجربته، ومن ثم الهلاك به، أكثر من ممارسة الاستبداد، فالاجتماع والسياسة والاقتصاد متخم تاريخها باستضعاف الطوائف والأقوام بعضها بعضاً.

وأبلغ دليل عليه النظم الطبقية التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها. حتى كانت عند مفكريها وفلاسفتها من طبائع الأمور. وجعلها بعضهم من طبيعة الخلق والتكوين. فيما يُعرف بالتفرقة العنصرية. وهو أمر نجد له وجوهاً في بعض ما ينسب لله من كتب دينية. كما في التوراة، التي عبَّدت بني حام لبني سام بدعوة من نوح استجابها ربه في زعمهم.

فتاريخ الهند واليابان والصين والإغريق وأوروبا والعرب قد صدَّق على التمييز العنصري. وبعض آثاره لا تزال جارية حتى اليوم. فتجد دائماً أن هناك فئة منبوذة، تُفرض عليها ظروف التخلف. ويُسجَّل عليها أنها غير مؤهلة للتطور. وأنها لذلك خلقت.

إن سنة التدافع والتي أساسها التسامح هي المانعة- إن روعيت- للمجتمعات من الدخول في أتون الحروب والأهلية. أما إذا خولفت، فالمآل أن يحدث انهدام اجتماعي شامل، رمز له القرآن الكريم بانهدام دور العبادة من صوامع وبيع ومساجد وصلوات. وهي لا تتهدم إلاّ في الحروب الأهلية. حيث من النادر أن تلجأ الحروب السياسية بين الدول لفعل ذلك. بل تحاول على مدى التاريخ أن تتجنب دور العبادة. لتوحي لشعوب عدوها أنها لا تعاديها هي بل تعادي ظالميها، أما والقرآن يبين أنه لولا التدافع ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ )(الحج: من الآية40) فهي الحرب الأهلية، والتي غالباً ما يوظف الاختلاف الديني فيها توظيفاً مباشراً وصريحاً، فتكون المعالم الدينية والمذهبيّة هي أول الرموز استهدافاً.

هل يمكن أن نتهم أمة من الناس بارتكاب جريمة؟ وبالتالي فهي تستحق العقاب من ظلم منها ومن لم يظلم؟ نعم، والحرب الأهلية هي من هذا القبيل، وسنة الاجتماع أن الأمة المجرمة جزاؤها التدمير، فقد يفوت مجرم جزاؤه في الدنيا، وقد لا يفوت، أما جرائم الأمم فإن جزاءها لا يفوت الدنيا، تريث أم تعجل، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل:69) فسنة التدافع العظيمة ستجازي المجرمين حتماً، ولو كان بمجرمين جدد، فلا بد للمسيرة أن تتداول، ثم العاقبة للمتقين، فإرادة الله قائمة في المن على المستضعفين، وتلك الأيام يداولها التاريخ بين الناس.

جريمة الحرب الأهلية مُجازاتها تشمل كل من باشر جرمها أو تفرج عليه. والواقع يقول إنها متى وقعت لوثت كل أحد بدخانها الأسود. فلا يكاد يفوت أحد منها نصيب. فمن لم يوجف بخيل ولا ركاب أوقد فيها ولو بنفخة لسان، وتعلق بها ولو بطرف، رجلا كان أو امرأة أو طفلا، هذا هو واقع الحال المجرب، فهي فتنة متى أقبلت أعمت كل بصير، وإذا أدبرت أبصرها الجاهل، وكذلك جزاؤها لا يكاد يفوت منه فائت إلا ولحقه من نارها ولو شرر. فالمتهاون بأمرها منوم بالمغناطيس، يرى البصل تفاحا.

إن الحروب الأهلية فرسٌ راكبها خاسر، فمن ظن أنه بها يربح فالتاريخ يكذبه، وكم من أمة أفنت نفسها في قتل نفسها لأجل مذهب من دين أو فلسفة أو مال، ثم لا تلبث الأيام تدور حتى يجدون أنهم قد خرجوا عن ذلك الأمر إلى أمر آخر مقارب أو مفارق، وأنهم لم يكونوا على هدى فيما ظنوه، فكم قد اقتتل أصحاب المذاهب الدينية، والمدارس الفلسفية الاقتصادية، وأوقدوا حروباً أهلكت وأحرقت ثم تراهم اليوم قد اكتشفوا ضلال ما اقتتلوا لأجله، أو قلة خطره، وأنه قد كان في الوراء سعة لم يُبصروها أيام عماهم وحماسهم، فقط خذ تاريخ القرن العشرين مثالاً ولا تذهب بعيداً، ومادام الأمر كذلك فالرفق أجمل من التهور. والمحصلة أن الناس مع الوقت تبدل آراءها إذا تبينت، وأنها تتجاوز عماها بعد حين. مادام هناك من يبلغ ويبين. والزمن متعهد بالكشف عن الحقيقة.

إن تاريخ الحروب الأهلية أسود شديد السواد، ولن يبيضه مزيد من الحروب، فهيهات أن تكون يوماً حرب أهلية بلا هدر للكرامة الإنسانية، وإن قبائحها ليتبرأ منها مرتكبوها خجلاً مما اقترفوه أيام جنونهم وهذيانهم، فما أسرع أن يستهجنوا من أنفسهم أعمالاً كانوا يعدونها بطولات، فلا يلبثون أن يعيشوا وخز الضمير، بعد ما كانوا يتسامرون بتمجيدها في حلقات السمر والسكر الهمجي، هذه تجربة قد كررتها الإنسانية طويلاً كأنها لا تعقل. وإن كان للديمقراطية ثمرة فإنما بفتحها السبيل نحو التدافع السلمي القائم على التسامح، وكل نظام سياسي لا يتمكن من منع الحرب الأهلية فهو فاشل، وإن تعددت غرفه التشريعية وفصل بين سلطاته، فإنما تكشف الحرب عن أثرة لا إيثار، واستبداد لا مشاركة.

إن كل ما يمكن عمله بعد الحروب الأهلية كان يمكن عمله قبلها، والأمر فيها ليس راجعاً لطبيعة في المشكلة، بقدر ما هو راجع لطبيعة في إنسانها، فلو تعاهدوا عقداً اجتماعياً على حل أمورهم بالسلم لجعل الله لهم من أمرهم مخرجاً، وإن لم يذهب إليه وهم، فالله هو السلام ويحب السلام، ولكن ضلال العقول، وسخيمة النفوس، والانبساط لوساوس الشيطان، الذي يأمر بالفحشاء، ويخوف بالفقر، ويدعو للفرقة والعصبية، أمور دربها يأخذ سالكيه نحو قعر الهلكة حتما.

إن الأمة الحكيمة يتبصر حكماؤها الأمور قبل الكارثة، وقبل حافة الهاوية، ذلك أن الاندفاع نحو الحروب الأهلية لا يشبه مشاجرة اثنين عند حافة هاوية جبل، أرضها صلبة ولا داعَّ نحو السقوط سواهما، بل الأمر فيها كمشاجرة اثنين عند حافة شلال جارف، ما أن يقتربا منها حتى يدعّهما سلطان الشيطان والنفس نحوها، ولات حين مناص إلاّ عليَّ وعلى أعدائي، ولا غرابة أن يسعى الإنسان لحتف نفسه راضياًَ بالنَصفة في الهلكة، فقد يبلغ الحقد بالإنسان أن يطعن نفسه ليقتل رديفه، أو أن ينادي اقتلوني ومالكاً.

فلا بد من التبصر في عواقب الأمور وأزمَّتها والأيدي مقبوضة، والنفوس مروَّضة، وليس ثمة أفضل من مجالس الشورى إن كانت مؤهلة ومخلصة وممكَّنة، فقد كانت قريش تعقد مجلسها في دار الندوة أيام جاهليتها، ولما تبصروا أن منهم من يزداد مع الأيام ثراءً بالتجارة، وبعضهم يظل في فقره أو يزداد فيه، خافوا حدوث طبقية فاحشة في الأحرار، تجعل المقلين منهم مع العبيد على سواء، فتفسد قريش على نفسها، فما كان منهم إلاّ أن عملوا ما يشبه بنوك الاستثمار أو الشركات المالية، فأعلنوا أن كلّ من ساهم ولو بدينار في أموال التجارة عند كبرائها فله نصيب من الفوائد على قدرها، فازدادوا خيراً وإن كانوا على غير دين الحق، فكيف بالأمر لو كان في خير أمة أخرجت للناس، ولكن الناس اليوم تهلك عن بينة.

إن الحروب الطائفية الدينية هي قرابين للشيطان، وهي دائماً لصالح شرذمة المتورطين معه بشيء ما، علماء دين يبحثون عن التمسك بمقاليد الزعامة، أو ساسة لا يجدون لهم بقاءً إلاّ على ظهر مركب الفتن، أو تجار أموالهم تجري من تحت أنهار الفساد، أو آخرون من غيرهم قد تورطوا بخدمة الغرباء من الأعداء، أما الأمة فلا مصلحة لها البتة، وأما الوطن فلا تركة له إلاّ الدمار، وأما المجتمع فلا ثمرة له إلاّ الأحقاد، وأما الدين فإنه قد يغدوا بعدها موضع التهمة، ورب شعوب رجمت ربها بعد طول عذاب، فعند انفجار الحروب الأهلية نعرف يقيناً من المستفيد، حيث لا مستفيد إلاّ الانتهازيون الفاسدون الخونة.

إن الطائفية الدينية هي مطية حصاد الجحيم، وإن الأخذ بالطائفة الدينية نحو الطائفية، والأخذ بالمذاهب نحو المذهبيّة لهو شدَّ الرحال نحو الهاوية، فمتى ما اعتقد مذهب أنه على الشيء كله، وأن غيره ليسوا على شيء، وأن الأرض لتضج من وقع أقدامالكافرينوهم غيره، وأن ضوضاءهم قد أزعجت الأرباب في ملكوتهم، فأنفاسهم تلوث الهواء، وكل ما طعموا وشربوا فهما كالغضب من يد الرحمن، تتساوى في الضلال دور عبادتهم ونصب الأصنام، لا يزيد بقاؤهم في الدين إلاّ زيادة في البدع والرأي المخترع، ليس من سبيل أهدى للسلطان من قمعهم وإذلا لهم وإقصائهم وحرمانهم والتضييق عليهم، فمن ثم نسير نحو الطائفية الدينية حيث تحتكر طائفة دينية الحكم والسلطان والنفوذ والوظائف والموارد، في مفارقة صارخة مع دين الله الذي ينادى أنه مهما دعانا شنآن قوم إلى أن لا نعدل فلنعدل، فإنه أقرب للتقوى ، نحكم بين الناس بالعدل، ونقوم بينهم بالقسط، ونتألف قلوبهم بالعطية، فأي ضلالة هي أبعد عن الدين من ضلالة الزاعمين أنهم قاموا لأجل الحق وهم يتجافون عن الحق، أولئك الذين افتروا على الله الكذب، فتعساً لهم وأضل أعمالهم.

إن البسالة التي نظهرها باسم الله ضد من يقول بسم الله هي أقرب للجنون من الشجاعة، وإن فدائياً يفجر نفسه محتسباً وسط المصلين، لهو في الضلال المبين، وهو بوصف السفه أليق من أولئك الذين يقتلون أولادهم خشية إملاق. والأمة بهم خاسرة في القاتل والمقتول، فشبابها يحترق على نصب الغواية. وبأصابعها تفقأ أعينها، فحق عليها أن تنادي بالمسكينة، أو بأخت جليلة كندة حيث بعضها يقتل بعضها، ويدها تحرق زرعها، ويا لشماتة الأعداء، يفركون الأكف فرحا، فالفخَّار يُكسِّرُ بعضه، وأينما أصابت سهام المَقَاتل فهي فتح.

إن التهور الطائفي هو المبالغة في الشجاعة على مجابهة محرمة، طائلها خاسر، فهاهنا يصح القول إن القاعد في الفتن المذهبيّة والطائفية خير من القائم، والنائم خير من القاعد، فرحم الله عبداً أمسك عنها يده ولسانه، ، وأصفى من غلها جنانه، وكف عنها بما ملكت يداه، ورحم الله الجبان فيها وثقل ميزانه، فإن كانت الشجاعة جنوناً فما موضع هي أجن فيه من وادي عبقر الحرب الأهلية، فليكن الإنسان فيها ابن آدم المقتول فهو خير له عقباً من أن يكون أبن آدم القاتل، وفيها إعطاء الخد الأيمن بعد لطم الأيسر جميل، والذليل فيها هو العزيز والقابض فيها خيرٌ من الباسط.

إن الأرض عطشى لعرق الرجال العاملين وليس لدماء الأخوة المتقاتلين، فيا أيها الذين أسلموا إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوَّاً، شيطان أنفسكم قبل شيطان عدوكم، وشياطين الإنس قبل شياطين الجن، وإن الإنسان ليتحسَّر على كل هذا العنفوان في المواجهات الطائفية لم لا يرى منه معشاراً في مواجهة أعداء الأمة الحقيقيين؟ والذين أولهم وأشدهم فتكاً التخلف وضعف الإنتاج، وندرة الإبداع والاختراع، وحب الاستهلاك المدمر، والإفراط في تناول الشهوة واللهو والعبث، ثم الرضا في عالم الحكم والإدارة والسياسة بالاستبداد وعبد الطاغوت، والدفاع عنهم والدخول في مداخلهم شرقاً بشرق وغرباً بغرب، فإن كان ثمة ولاء وحمية وانتماء للدين؛ فكيف لا نجد آثارها في العمل والفكر والموقف؟

إننا أمة مهدورة الجهد، مهدورة المال، مأكولة الحق، سقط بين الأمم شرقيها وغربيها، فحتى الدول التي كانت مستعمرة مثلنا، ومتخلفة مثلنا، مضت وخلفتنا وراءها أشواطاً، ونحن لا نزال نتجادل فيما كنا نتجادل فيه أواخر القرن التاسع عشر ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين.

إن الشعارات والمزايدات الخاوية باسم المذهبيّة تارة والطائفية تارة أخرى، هي مجرد محاكاة شيطانية لإيقاظ الفتن وإنتاج الأزمات الإنسانية، تحركها فينا أصابع ليست خفية إلاّ علينا- ذلك أننا لفرط جهلنا وتعصبنا نحبها ونسعى إليها، ومن أحب شيئاً أعمى بصره وبصيرته، وإلاّ أفلم تكن هذه الفتنة نائمة؟ فمن وما الذي أوقظها كلها في فزعة مفزعة مريبة هنا وهناك؟ ألا يستحق ذلك التبصر؟ ولم تزامنت كلها مع مشروع الشيطان الأكبر وفوضاه الخلاقة؟ فلم نحاكي الشيطان فيما يريده بنا؟ ولم نجعل من أنفسنا ثيراناً ننطح في ردائه الأحمر وبكل بسالة وهياج؟ لم نرضى لأنفسنا أن نكون أضحوكة لجمهور العالم المتفرج؟ والذي ينتظر النتيجة وهي أن يحمل الثور في النهاية خائراً ليذبح ويؤكل؟ فإنما الرداء الأحمر لإغفالنا عن الجهة الحقيقية للطعنات، التي لا تزيد الثور إلاّ هياجاً واستبسالاً في قتال الرداء، إننا اليوم ثورٌ في حلبة مصارعة لاعبها غربي ومطعونها عربي.

إن الإنسان القابل للإثارة الطائفية الدينية ليس سوى صلصال لين، لا ثبات له على دين أو مبدأ، ذلك أن الإنسان الذي يتحرك بالإثارة لا ثبات له، فهو لا ينبعث بالأصالة من الداخل بل من المثير الخارجي، ومن لم يسيطر على بنائه العاطفي جّرَّته فوراته إلى حيث تريد هي أو مثيرها، وربما أفاق ولكن بعد ذهاب السكرة و خراب البصرة.

إن جوهر الإيمان الحق يتمثل في تمسك المؤمن بالعدل والنصفة من نفسه قبل الآخرين، وتشدده عليها، في قبالة التسامح والعفو والتماس الأعذار لخطأ الغير، والتغاضي عن حقوق الذات في مقابل الحرص على حقوق الآخرين، ومن لم يكن هكذا لم يدخل الإيمان في قلبه بعد، مهما كانت حال ظاهره، ومن كان هكذا فإنه لا يثور إذا ما أثير، ولا يغضب لمجرد أنه استغضب، ولا يبغي لمجرد أنه خوصم، ولا يقول في الرضا والغضب إلاّ الحق ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، فمن مثل هذا يُرجى الثبات، وأما سواه ممن هو على عكس حاله- وهم أكثر الخلق- فإخراجهم عن دينهم وسمتهم بالإثارة أمر متيسر، ولهذا تجدنا نسارع للفتن بلا تريث، كما قال الله سبحانه في قوم (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً)(الأحزاب: من الآية14)

التورط بالطائفية الدينية تورط بإرث معطوب، فإن كانت المذاهب تركة من الأجداد فهل على الأبناء والأحفاد واجب مراعاتها والحفاظ عليها؟ كيف وهم يرونها تمزق شملهم وتذهب ريحهم وتتضخم سرطانا يلتهم دينهم؟ قد يولد الشيء يوما فتكون ولادته طبيعية، ثم لا يلبث أن يتحول بالأمراض التي تتناوبه مسخا كما تمسخ بعض الأمراض الأبدان، فتعود في نفسها مصيبة. أم أننا لم نبرأ من مرض الجاهليين المزمن: فيروس تقديس الآباء ؟

عندما نقيم عرشا للطائفية الدينية فإننا نحفر الأرض قبورا دفينها ليس سوانا، والشواهد ماثلة لذي عينين، فالقاتل والمقتول يصلى عليهم، وتقرأ لهم الفاتحة، ويعظّم لذويهم الأجر، ويسأل الله لهم الصبر والسلوان، ويبشرونهم بالجنة! أوليس في هذا دلالة على أن في الأمر ضلالة؟ فقد يصح أن القاتل والمقتول في النار، لأن كليهما ظالم، ولن يصح أن كليهما مظلوم، فلنكف عن الافتراء على الله والتألِّي عليه بتزكية مُحازبينا ومُماثلينا، لنزكي بذلك أنفسنا من خلالهم.

يكفي من تأجيج نار الطائفية شرره، فتعسا لنا إن أحرقتنا، بل ستحرق أبناءنا كما أحرقت آباءنا من قبل.فأمثال هذه النار كمثل نار البراكين، تظل توقد تحت الأرض وتزداد مع الضغط ثم تنفجر مدمرة الأخضر، ذلك أنها توقد من الحقد ومتى ينطفئ نار الحقد والسباب المتبادل ينفخ في كيرانها؟ وجهلة ( العلماء) يغذونها بالعصبية؟

إن نار الطائفية هي من أشد ما ينبغي أن يُحذر، إذ ليس ثمة حادثة طائفية مقصودة كانت أو عارضة، لا يستخرج منها دعاة الطائفية شرارة تثير حربا ضروسا، فقد يتحول خلاف على أرض بين مسجد وكنيسة لمذبحة، وقد يتحول مأتم حسيني إلى مأتم لجنائز عديدة، وقد تتحول أثرة في وظيفة أو مصلحة، لعناوين عريضة تستصرخ الفُوَّار؛ الغوث الغوث؛ واعلياه، أو واعمراه! ولو كانا شاهدين لتبرءا من الفاعلين.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.