بنى رجلٌ مطعماً عصريّاً بالقرب من مسجد في إحدى العواصم الإسلاميّة، وكان المطعم يُقدّم الخمر مع الطعام لمن يطلبه في جو من الموسيقى والطرب تصاحبه رقصات مع وجبات العشاء، وكان واعظ المسجد المجاور يدعو بعد كلّ خطبة أو صلاة بأن يصبّ الله غضبه على صاحب المطعم ويُنزل على المطعم كارثة تمحوه من الوجود، ومع كلّ دعوة يُؤمّن المصلّون على دعوته تلك، وبعد أقلّ من شهر، أصاب المطعم تماسٌّ كهربائي أحرقه وحوّله إلى دمار، وفي اليوم التالي، ذهب الواعظ للمسجد فرحاً، وبعد الثناء على الله وشكره، بارك للناس تدمير ما أسماه بؤرة الفساد، وقال بأنّ المؤمن إذا دعا الله بقلب صادق، فإنّ الله سيستجيب دعاءه ولن يُخيّب ظنّه.
ذهب صاحب المطعم إلى المحكمة شاكياً واعظ المسجد، مطالباً إيّاه بتعويضات عن الخسائر التي تكبّدها، متّهماً إيّاه بأنّه هو السبب في تدمير مطعمه، لم يقبل الواعظ التُهمة وكذلك المصلّون الذين كانوا معه، فسمع القاضي الطرفين ثم قال: والله لا أعلم ماذا أقول، لديّ طرفان متخاصمان، فمن جهة هناك واعظ مسجد ومصلّون معه لا يؤمنون بتأثير الدعاء، ومن جهة أخرى هناك بائع خمر يؤمن بتأثير الدعاء.
كلّ منّا يحمل كمّاً هائلاً من المعتقدات التي ترتبط بالحياة والدين والنجاح والتوفيق والمحبّة وغيرها، وكثيراً ما تترسّخ هذه المعتقدات لدينا دون أن نفكّر فيها ونمحّصها لنتأكّد من صلاحيّتها ومناسبتها لنا، وتوافقها مع المنطق الذي نحمله ومع ما نريد لأنفسنا في الحياة، فقد لا نتذكّر منشأ أغلبها، وكيفيّة تشكيلها، ومن الممكن ألّا نكون منتبهين وواعين بأنّنا تبنّينا تلك المعتقدات أصلاً، فهي تتجلّى بشكل أوضح حين نحتكّ بالواقع، ويكون علينا أن نقوم بعمل أو ردة فعل لموضوع له علاقة بها، فهنا تتبيّن لنا الأسس التي بنينا عليها معتقداتنا، وإذا ما كانت صلبة ومتينة، أم أنّها مغروسة في رمال متحرّكة يحسبها صاحبّها متوهّماً بأنّها ثابتة، وما أن تأتي عاصفة أو هزّة إلّا وتحركّت من مكانها وقد تنقشع وتسقط.
فهناك الكثير من المعتقدات التي يحملها الإنسان لا تؤثّر في مسيرة حياته بشكل عميق ولا بشكل مباشر في مَن حوله، فإن كانت صلبة أو مهزوزة قد لا يتعدّى تأثيرها شخصه وفي مجال محدّد أيضاً، كأن يعتقد بأنّ يوم الإجازة يجب أن يُخصّص لأعمال من نوعيّة معيّنة فقط، أو أنّ الحديث أمام جمع من الناس مجازفة كبيرة لا يجب عليه محاولتها مهما كلّفه الأمر، وهناك معتقدات إن اهتزّت تؤثّر على الشخص نفسه بشكل كبير وفي الآخرين أيضاً، فالاعتقاد مثلاً بأنّ الكذب تصرّف سيء قد يكون اعتقاداً صلباً وقويّاً، يتحدّى صاحبه به الصعوبات وفرص الكسب التي قد يُتحصّل عليها بالكذب، وباهتزازه قد يقرّر أنّ الكذب له ألوان ممكن اختيار أحدها حسب الموقف، فقد يكون كذباً أبيض لا إشكال فيه بتاتاً، وقد يكون كذباً رماديّاً يسوده التضليل والكلام الذي يحتمل أبعاداً مختلفة ويوحي لكِذبَة دون التصريح بها علانية.
وعملية قبول الرشوة وإعطائها مثال آخر، فقد يعتقد الشخص بأنّ الرشوة سلوك مذموم، إلّا أنّ باهتزاز هذا المعتقد يصبح لديه مجالاً للمراوغة في أصل قبح الرشوة، ويعطي لنفسه مبرّراً لممارسته بصور مختلفة، وعادة لا يكتشف الإنسان هذا الاهتزاز والزيغ إلّا حين يكون في وضع يحاول طمع الحصول على المنافع، أو جشع الوصول إلى المكاسب، أو الخوف من الخسارة أن يكون هو سيّد الموقف، فحينها يكتشف الشخص مدى وهن أُسس تلك المعتقدات التي قد يكون تفاخر مع نفسه، وربما مع غيره، بأنّه متمسّك بها مؤمن بأصالتها.
إنّ المعتقدات التي تتعلّق بأصل هويّتنا والدفّة التي توجّه حياتنا والنهاية التي نرجوها لأنفسنا والطريقة التي نُسيّر بها حياتنا هي معتقدات غاية في الأهمّية، نحتاج أن نَعرضها على عقلنا بوعي، ونُقيّمها لنعرف إذا ما كانت ستثبت وتتلاءم وتتناسب مع أصل قيمنا التي نحملها، فإن لم تكن، رميناها وتبنّينا ما هو أفضل منها بوعي وبعد تقييم، وإن ثبتت وتلاءمت، محّصناها لنتعرّف على مدى قدرتها على الصمود بداخلنا، فإن وجدنا بأنّ الأرضيّة التي تقف عليها مهزوزة وليس لها الصلابة الكفيلة بحمايتها، نعمل على الجوانب التي تصبّ في تثبيتها قبل أن تأتي الظروف وتزيلها أو تهزّها وقد تكسرها وتُبقي لنا بقايا منه مشوّهة.
إن لم تكن معتقداتنا ثابتة وممتَحَنة، قد نجد أنفسنا في الوضع الذي وصل إليه بائع الخمر في قصّتنا، والذي ربّما لم يكن يعلم إنّ بداخله إيماناً قويّا بقوّة الدعاء وتأثيره، وهو الذي لم يهتم لما سمعه من دعوات المصلّين في المسجد حتى حلّ عليه ما حلّ، وكذلك الوضع الذي وصل إليه واعظ المسجد الذي اصطدمت مصالحه بمعتقده، فآثر أن يحلّ مشكلته بإنكار أثر الدعاء الذي طالما وعظ الناس به وحثّهم على الإيمان بتأثيره، ولم يفكّر بأن يسلك طريقاً آخر لحلّ المشكلة وكسب القضيّة، فالتنصّل من معتقده وإنكاره كان أسهل عليه من الدفاع عنه أو من العثور على حلّ لقضيّته مستخدماً سُبُلاً أخرى.
ولعلّ التأمّل في الآية الكريمة {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}(العنكبوت/2) يساعدنا ويفتح لنا عمقاً أكبر ووعيا أوسع عند التفكير بما نحمل من معتقدات، لنعيد تشكيلها بوعي حتى لا نتفاجأ من أنفسنا في مواقف الفتن.