ثورة الحسين ثورة سياسية، اجتماعية، إصلاحية، إسلامية الأسس، إنسانية الأهداف، لا هي مذهبية ولا دينية. قامت لتواجه أكبر تحريف في عالم السياسة في المجتمع المسلم، ألا وهو سلب الحق من الأمة في اختيارها قيادتها السياسية، وجعل ذلك وراثياً كبقية الأمم الأخرى يومها كالأكاسرة والأباطرة. فالأمة الإسلامية كانت الوحيدة في الدنيا التي تعيش حكماً، تختار الأمة فيه قيادتها، وينصب فيها الخليفة باختيار النخبة المبدئية، من أهل الحلّ والعقد، ثم يُعرض اختيارها على الأمة للبيعة العامة، وكان الناس أحراراً في أن يبايعوا أو لا يبايعوا والأقلية ملزمة بالأكثرية، ومن ترفض الأمة بيعته فلا حق له في الخلافة.
وكانت البداية عند بيعة يزيد، إذ أنها إنما تمتّ بفرض من أبيه، وأُخذت بيعته تحت التهديد، وفي زمان أبيه، وهو أول ولي عهد في المسلمين، حيث أراد معاوية أن يتشبه بالأكاسرة والأباطرة، فيجعل الحكم خلافة في ذريته، فأخذت البيعة في الشام من أهلها، ثم أجبرت البقية بالقوة على البيعة، وبقيت المدينة المنورة ،مركز الثقل الديني والسياسي، والتي ترمقها عيون جميع الأمصار، وبقيت الكلمة الفصل عند أبناء الأنصار والمهاجرين ، فإما أن يقفوا أمام هذا الانحراف العظيم، و إما أن يتجاوبوا معه خوفاً وطمعاً. وكان الحسين (ع) في مركز تلك البؤرة، وكان عليه أن يقول كلمته، وفي سكوته إمضاء التحريف وشرعنته، وفي اعتراضه بقاء لكلمة الحق؛ في أن الاختيار إنما هو للأمة بلا إكراه، أصابت في اختيارها أو أخطأت، فكل خطأ متدارك مادام الاختيار بيدها.
ويومها جبنت الأمة عن قول كلمة الحق ونصرته، وتراجعت وجوه النخبة، فمنهم من قال : “أُغلق عليّ باب داري” ، ومنهم من قال : ألازم المسجد أعبد ربي ، وكان الواجب حينها الخروج من الدار ، والتعبّد بقربان الدم . فقام ذخيرة جدّه (ص) المعدود لمثل هذا اليوم قائلاً : ” مثلي لا يبايع مثله ” ونادى في الأمة في الموسم الأعظم: ” ألا وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي ، أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهى عن المنكر .. فمن قبلني بالحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليّ جوابي؛ أصبر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .. “.
فما قبله من الأمة إلاّ قليل، وقد ردّ عليه جوابه الكثير الكثير .. ردّوه عليه تثبيطاً وإنكاراً، وقعوداً واندحاراً، وخيانة واستسلاما، ثم حرباً واصطلاماً .. ولكنه مضى ولله درّه معلناً أنها رسالة من ربه بلّغه إياها جدّه، أمانة محمولة ودرجة مذخورة، لا ينالها إلاّ بالشهادة، فأعلنها في مكة من ظهر الغيب أن ” كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملئن مني أكراشاً جوفا، وأجربة سغباً .. رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه فيوفّينا أجور الصابرين “.
فيا حسرة حينما قُتل الحسين، ووئدت مبادؤه، و فقدت الأمة حقها في الاختيار، وظلّت السنّة الأموية، تتعاقب عليها أجيالاً وأجيالاً وأجيالاً، ولم تعد بحاجة للتهديد لكي تبايع، فقد صار منكر الحسين معروفا،ً وفاسده عندها صلاحاً ، عميت القلوب وانتكست، وضاعت الشورى وحق الاختيار، وفرّخت ثمار الاستبداد .
ويا حسرة على الحسين مرة أخرى، حينما تختزل ثورته السامية، في موروث مذهبي، قد يبلغ ضياع ما أراده منها ، أنك واجد من بين بواكيه، من لا يؤمن بما ثار هو لأجله!
الحسين ليس رجل مذهب، ولا إمام فئة، ولا قتيل طائفة، ولا مقتول أخرى… الحسين ثائر مظلوم، قد قمعت حركته، وانتصر في نفسه، ولكن بقيت مبادؤه في الأمة مهزومة، ومن كان يحب نصرته ، فإن نصره يوم تعود للأمة حرية الاختيار ، وتعود الأمة لا ترى الوصاية معروفاً، واحتجاج الحسين منكراً ..يوم يعود للأمة وعيها وإرادتها وروحها؛ فلا تقبل أن يتولّى عليها إلاّ من ترتضيه بإرادتها الحرة.
جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
مملكة البحرين
1425 هـ