أعجب كثيراً من الجمود الذي تعاني منه الأمة الإسلامية – والعربية على وجه الخصوص – في الشأن السياسي والاجتماعي والعقائدي والفكري والثقافي فنقرأ كتباً لمفكّرين ومصلحين، ونسمع أحياناً كلمات أو محاضرات لقيادات دينية أو سياسية تحلّل حال الأمة مضى على بعضها ربع قرن، أو نصف قرن، بل وقرن من الزمان وكأنها كُتبت بالأمس القريب! ما يعني أننا في تردٍّ دائم وإنْ أسميته تجاوزاً (جموداً).
فتعجب وأنت تقرأ كتاب الكواكبي طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وهو يصف بكل دقة داء الأمة ودوائها قبل مئة عام وكأنها وصفة علاجية لأبناء الأمة اليوم، وتدهش من أطروحات مالك بن نبي في كتبه التي يعالج فيها مشكلات الحضارة ويحثّ الأمة على النهوض، وتستغرب حين تسمع الشهيد مطهّري وهو يصرخ بعلو صوته، أو تقرأ له معاناته لتصحيح العقائد الفاسدة التي نالت من الفكر الإسلامي ومعالجته الدائمة للممارسات الخاطئة وبالأخصّ فيما له علاقة بالنهضة الحسينية (التي هي حدث ذكرى هذه الأيّام)، أضف إلى ذلك النقد اللاذع لاستحمار الشعوب من قبل رجال الدين المتخادنين مع السلطة السياسية المستبدّة في كتب عالم الاجتماع والمفكّر علي شريعتي، وغيرهم الكثير، والأغرب من ذلك أنّ هذه الأفكار والمقولات تنال حظها من إعجاب العامة والخاصة ولكن لا تجد لها أثراً على أرض الواقع.
في نصٍّ بابليّ يعود إلى زمن الملك الآشوري بانيبال (627 ق.م) أي قبل أكثر من ألفين وستمائة عام، وجدت (بعض) إجابة على سبب هذا الجمود والتخلّف، حيث يدور حوار طويل بين سيدٍ وعبده، أطرف ما فيه هو قدرة العبد (المطيع) على مسايرة رغبات سيّده وتبريرها كلما عدل عن رأيه ومهما تباينت تقلّباته، فمرّة يقرّر السيّد أن يتصدّق بالطعام على أهل القرية الفقراء، فيبارك له العبد خطوته ويؤكّد له على أنّ من يتصدّق يزداد محصوله، وفجأة يقرّر السيد الامتناع عن التصدّق، فيسارع العبد لتبرير ذلك له بقوله: لا تفعل يا سيدي، سيأتون على قمحك، ثمّ يصبّون اللّعنات على رأسك، ومرّة يفكّر أن يعشق امرأة، فيزّين له العبد هذا الفعل بأنّ العاشق ينسى حزنه ويطرد خوفه، فيتراجع السيّد مرّة أخرى ولا يتواني العبد في التبرير له بأنّ المرأة جحر، وهاوية، وفخ، ومصيدة، وهي خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل! ثم يقرّر السيد أن يكوّن أسرةً وينجب أطفالا، وفجأة يعدل عن قراره فيوافقه العبد على كلتا الحالتين بتبريرات لم تكن لتخطر على بال السيد وهو يتقلّب في تردّده بين نقيضين فيصادق العبد على الحالين بحسب رأي سيده ويزين له محاسن ومساوئ فعله وعدم فعله!
تشبه علاقة جُلّ أبناء الأمة بأسيادهم (السياسيّين أو الدينيّين والمذهبيّين) علاقة هذا العبد بسيّده، فالمستبدّون من الحكّام أو رجال الدين يقرّرون أو يُفتون ثم ينقلبون على قراراتهم، ثم يقرّرون ثانية ويعدلون، وثالثة ويتراجعون بلا سبب وجيه لأنهم يعلمون أنّ هناك من التابعين من سيظلّ معهم معهم برباط أبديّ وسيجد لهم المبرّرات مهما تناقضت أفعالهم أو خالفت مبادئهم التي ينادون بها، مع فارق أنّ السيد في النصّ البابلي لاحظ أنّ العبد يقول له ما يريد أن يسمعه بغضّ النظر عن الحقّ، فباغته في خاتمة الحوار بسؤال عن مفهومه للخير والشرّ إن كان كلّ تصرّف مهما ساء يمكن تبريره، فتجرّأ العبد وردّ على سيّده بأنّ الخير:هو أن يدقّ عنقك وعنقي، وأن تُلقى في البحر وأُلقى فيه، فردّ عليه السيد بأنه سيقتله ويرسله إلى البحر أوّلاً، ليجيب عليه العبد متحدّياً: لن يحتمل سيدي العيش بعدي ثلاثة أيام! وفعلاً لم يقدم السيد على قتله فكلّ منهما يستمدّ مادة حياته من الآخر
المستبدّون اليوم أكثر دهاء، ولديهم سلّة منوّعة من التابعين المطيعين لهم والمبرّرين لأفعالهم (على غرار سلّة الاستثمارات التي يحتفظ بها التجّار لكي لا يخسروا كلّ ثروتهم دفعة واحدة)، فلا مانع لديهم أن يضحّوا بفئة في مرحلة لأجل أخرى مدّخرة لمرحلة قادمة بما تتطلبه مصالحهم الآنية والشخصية، ومن جهة أخرى أصبح التابعون أشدّ جهلاً بدهاء أسيادهم وأكثر غفلة عن مصالحهم، وأجبن من أن يفصحوا عن مكنون نفوسهم، فهم كما قال عنهم الكواكبي:المستبدُّ إنسانٌ مستعدٌّ بالطبع للشرّ، وبالإلجاء للخير، فعلى الرعيةِ أنْ تعرفَ ما الخيرُ وما الشرُّ، فتلجئ الظالمَ للخير على الرغمِ من طبعه، وقد يكفي للإلجاء الطلبُ وحدّه إذا علم الظالمُ أنّ وراء القولِ فعلاً، ومن المعلوم أنّ الاستعداد للفعل فعلٌ يكفي شرَّ الاستبداد .. هذه وصفة دواء قديمة ولم تنته صلاحيتها بعد، وفي بطون الكتب وتجارب التاريخ عشرات مثلها، لمن يريد أن يغيّر.
فإلى متى ستبقى الأمة كالمريض المعاند الذي يُوصف له الدواء ولكنه يأبى أن يتعاطاه جهلاً أو تجاهلاً، أو كاليائس من صلاح حاله والمستسلم لما وصلت إليه حالته من سوء وتردٍّ، والراضي بما يقال عنه وفيه؛ كمقولة عدوّنا التي أصبحت كبطاقة تعريف لنا بأننا أمّة لا تقرأ وإذا قرأت لا تفهم! وتحليل بعض المنظّرين للعقل العربي، وادّعائهم استعداد الإنسان العربي (نفسياً) لتقبّل الاستبداد! وما إلى ذلك من وجهات نظر لُقّن بها على مدى عقود طويلة فبُرمج عليها وبات يرى نفسه في مرآتهم لتستعصي المهمّة على كل مصلح مخلص يريد أن يخرج هذه الأمة من ظلمات الجهل إلى نور إعمال العقل والحرية.