ديمقراطيات من القرآن -2
هناك جانب من التمثيل الشعبي أسّسه رسول الله (ص) وظل يعمل فترة، ولكننا أولا لا نجد في التاريخ ذكراً لأدواره الحقيقية . فقد أسّس رسول الله صلى الله عليه وآله نظام النقباء، تم هذا التأسيس منذ العقبة الثانية حينما تمت البيعة بينه وبين الأنصار قال : “أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم” . وهذا العدد المحدد اثنا عشر كان بعدد البطون القبلية من عرب المدينة المنورة نقيب عن كل بطن فهو تمثيل قومي (قبلي) . فلما أخرجوهم قال للنقباء : أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي، فكانت مهمة النقباء يومها القيام بمتطلبات النصرة التي تعاهدوا عليها مع محمد (ص)، فتأسس أول تمثيل شعبي في الإسلام، دون أن يكون هناك مجلس منتظم يجمعهم معه كلما استجد أمر. وأنت تلاحظ أن النبي قال : “أخرجوا” فجعل الاختيار للناس ينتخبون من يمثلهم ثم لم يناقشهم في صلاحية هذا الاختيار إذ هم أعلم برجالهم .
وكذلك قوله “يكونون على قومهم بما فيهم” فهذا تنبيه إلى الجهة الأخرى من مسؤليات النائب . فالنائب اليوم عند السياسيين هو من يمثل مصالح الأمة أمام السلطة التنفيذية على الخصوص وأمام بقية السلطات على العموم . ولا تنعكس في الاتجاه الآخر أي متابعة قطاعه الذي انتخبه في مدى تجاوبه والتزامه بمسؤلياته تجاه السلطات الأخرى والآخرين . فالنائب في أدبيات الناس لا ينتظر منه أن يقف ليرد الناس إلى جهة الصواب فيما لو انحرفوا، وهو ليس مسؤلا قانونا عن عدم التزام من يمثلهم بما ينبغي لهم الإلتزام به مما قررته الدولة ديموقراطيا، بل هو في الغالب ينساق مع الرأي العام طمعاً في إعادة انتخابه . ولكن النبي هنا أشار إلى هذه الناحية المنسيّة من مهمات النائب، فكأنما جعل النائب وسطاً للإصلاح بين الجهتين فيطالب السلطات بحقوق الناس ويطالب الناس بحقوق السلطات ، ولعل هذه الناحية غير معمول بها في النظام الدستوري في العالم كله وإلى اليوم.
والمؤسف حقاً أن التاريخ لا يذكر لنا الدور الفعلي لهؤلاء النواب (النقباء) في دولة المدينة المنورة، لأن تاريخنا لايدوّن إلاّ الأحداث، والتي قد يغيب فيها الدور الداخلي الاجتماعي لمثل هؤلاء النواب . ولكن الأحداث أشارت إلى وجود مثل هذا التمثيل ودوره في ترابط الدولة ، فقد بعث أبو سفيان بن حرب رسالة إلى الأنصار يأمرهم بالتخلي عن نصرة رسول الله، فكان للنقباء دورا فاعلا في إحباط المحاولة كما يشير شعر لحسان بن ثابت . نلاحظ أن نظام النقابة قد خفت ذكره بعد وفاة الرسول، كما لا نلاحظ توسّع هذا النظام ليشمل كل قبائل العرب، فقد يقيم الرسول على بعض الأقوام نائبا عنه منهم، ولكننا لم نعد نسمع بطلب إخراج نقيب منهم ليكون صلة بينه وبينهم. ولعل ذلك راجع إلى عدم وجود انتماء جماعي للإسلام في القبائل الأخرى غير الأوس والخزرج في المدينة، فقد كان الاسلام يخالط الناس شيئا فشيئا، أفرادا هنا وأفرادا هناك، مما لا يسمح بوجود تمثيل نقابي فيهم.
وشيئاً فشيئاً ومع تطور الأحداث السياسية وتطور الدعوة بدأت القوى الاجتماعية تفرز بذاتها نواباً عن المجتمع، تمثلوا في أهل السابقة والجهاد من المهاجرين والأنصار، لتتكون في المجتمع المسلم طبقة سياسية عرفت في أدبيات السياسة الإسلامية بأهل الحل والعقد، وهي مكونة من شخصيات المهاجرين والأنصار وأبنائهم الذين واصلوا اهتمامهم بالشأن العام السياسي والديني . والذي احتلّ فيه المهاجرون منزلة الصدارة، خاصة بعد الخلاف الذي نشب بين المهاجرين والأنصار حول الأولى باستحقاق الخلافة بعد الرسول، والذي اشتهر في التاريخ بيوم السقيفة . لم يكن هناك انتخاب بطبيعة الحال لطبقة المهاجرين والأنصار ، ولم يكن تمثيلهم للأمة باختيارهم ولا باختيار الأمة لهم، ولكنها الوقائع التاريخية خلقتهم وكان تمثيلهم السياسي للأمة حينها محتوماً بفعل هذا الواقع.
وبقيت هذه الطبقة برغم خلاف السقيفة فاعلة متماسكة تؤدي دورها وقامت بدور فعّال في تثبيت النظام والدولة على عهد الخلفاء أبي بكر وعمر وقامت بدور فعال في الاحتجاج على عثمان والثورة عليه وانتخاب علي مكانه، و لكن ذلك كان آخر عهدها بالتماسك فقد افترقت فرقا منذ أن اختلفت على عثمان . ثم مع معاوية بدأت مرحلة الموت والتهميش لهذه الطبقة، ولجأت الدولة الأموية لإعادة المنطق القبلي والعرقي ، فقربت وأبعدت، وأكرمت وأهانت، على حسب هذه المعايير، و اتجهت الدولة للاستبداد ولم يعد هناك مجال للتأثير السلمي في السياسة . فماتت آخر صورة للشورى السياسية في المجتمع المسلم ، بعد أن تآكلت كل صورها من نواب منتخبين (النقباء) إلى طبقة الأنصار والمهاجرين، و تحول إلى وراثة تثبت بالبيعة ولو من مكرهين.
وكان بالإمكان أن تتحول طبقة الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار إلى التابعين لهم بإحسان ثم إلى كافة أهل الإسلام لتعود الدائرة إلى الانتخاب التمثيلي الأول الذي بدأ بالنقباء، نقيب عن كل قوم أو عن كل منطقة أو عن كل فئة، وإن على أسس أخرى . ولكن الأمة الإسلامية سلكت طريق الاستبداد بعدها حتى نست الشورى والاختيار لألف وأربعمائة سنة ولم تسمع به ثانية إلاّ بلسان الغرب. هذا ولم يكتف المسلمون بإماتت نظام النقابة، بل حرفوه وشوهوه، ففي مرحلة من التاريخ أعيد هذا النظام ولكن لطبقة الهاشميين فقط، وذلك في العصر العباسي الثاني، فكان للهاشميين نقيب منهم يمثلهم أمام الخليفة الذي لم يكن يومها يملك من السلطة إلا الشكل، وفي مرحلة قبلها تحول نظام النقابة إلى نظام في الرتب العسكرية، فالقائد العام يسمى صاحب الجيش، وهو مسؤول أمام الخليفة، ثم النقباء من تحته ثم العرفاء بعدهم ثم سائر الجند، وعبر هذا التسلسل تروح الأوامر وتجيء، ولا زال بعضا من هذا يعمل إلى اليوم. وتحول في فترة إلى معنى التجسس والإخبار، فالنقيب عليه أن ينقب للدولة عن عورات قومه والمحلة التي أوكلت له، والعريف عليه أن يتولى مسؤولية التعرف على مجريات المور ويرفعها لأجهزة الأمن .
لقد كان المعنى المتبادر حينما يطلق اسم النقيب على أحدهم، أنه يعني ذو المناقب، وكانوا يقولون فلان محمود النقيبة، أي لاتجد فيه إن نقبت عنه إلا الحسن الجميل، فحولوها إلى معنى المنقب عن أسرار قومه ليرفعها للسلطان وتحول معنى العريف من العارف بالشيء القادر على القيمومة عليه، إلى المتعرف على الخفايا لرفعها للجهات المختصة، وهكذا تتحول مبادرات الديمقراطية عندنا لتصبح أجهزة أمنية منذ ذلك اليوم.