تلخيص كتاب
(وعصى آدم … الحقيقة دون قناع)
تبدأ قصّة خلق الإنسان في القرآن الكريم والتراث العربيّ الصحيح، من الحوار الذي دار بين الربّ والملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(البقرة:30). المتكلم هو جبرئيل (ع) ينقل لمحمد (ص) الحوار الذي دار بين الرّب والملائكة، فالربّ في هذه الآية الشريفة هو ربّ الملائكة، وسيّدهم الأعلى، المشرف على الملائكة العاملين، “ربّ الأرباب” كما يسميه التراث القديم بمعنى سيّد الملائكة المدبّرة.
فالحوار إذن ليس بين الله سبحانه والملائكة لأنَّ الله سبحانه إذا أراد شيئًا ليس إلا أن يقول له كن فيكون (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يس:82). وينقل القرآن الكريم هذا الحوار في مشهد آخر: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (صّ: 71/75)
فبعد أنْ سوّى الربُّ آدم الإنسان، أمر الملائكة بالسجود له، أي أمرهم بطاعته والائتمار بأمره، وليس المقصود بالسجود هنا سجود العبادة؛ لأنَّ العبادة لا تكون إلا لله سبحانه (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56). أطاع الملائكة الربّ فسجدوا إلا إبليس: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) (الحجر: 30/ 33)، وفي سياق قرآني آخر: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(ص: 75،76).
لمّا تمرّد إبليس وتكبر وأبى السجود صار شيطانًا رجيمًا فطرده الربّ من الجنّة “المحلّة الآمنة أو الفردوس” (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(ص: 77/ 78)، اللّعنة تعني الطرد والحرمان من النعمة، (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(ص: 79/80). “إنّك لمن المنْظرين” أنَّك ستظلّ محبوساً في الأرض؛ لأنّ عروج الملائكة الرّوحانيّين إلى السماء لا يكون إلا من الجنّة “المحلّة الآمنة” فلمّا طرد إبليس من الجنَّة ما عاد بإمكانه العروج معهم إلى السماء.
عندما طرد إبليس من الجنّة هبط إلى جبل قريب منها، وكان هذا هو الهبوط الأوّل له، (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (لأعراف:13) ومن هذه الآية الشريفة نستوحي أنَّ الجنَّة كانت في مكان مرتفع.
كان إبليس قبل تكبره وعصيانه عالمًا عابدًا مقربًا، فقد روي عن ابن مسعود: “كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا، وعن ابن عباس: كان من حي من الملائكة يقال لهم الجنّ وكانوا خزّان الجنان وكان من أشرفهم وأكثرهم علمًا وعبادة، وكان من أولى الأجنحة الأربعة فمسخه الله شيطانا رجيما”، وفي الإنجيل: أنّه كان أجمل مخلوق في الملائكة قبل مسْخه شيطاناً قبيحاً مهولاً، وفي إنجيل برنابا يقول النبي إشعيا موبخا إبليس: كيف سقطت من السماء يا كوكب الصبح يا من كنت جمالَ الملائكة وأشرقت كالفجر، حقاً إنّ كبرياءك به قد سقطْتَ للأرض)(الفصل 34) وفي سفْر حزقيال يُخاطبه (أَنْتَ خَاتِمُ الْكَمَالِ, مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ الْجَمَالِ، كُنْتَ فِي عَدْنٍ جَنَّةِ اللَّهِ (بالنصّ العبريّ “جنّة الآلهة”)، كُلُّ حَجَرٍ كَرِيمٍ سِتَارَتُكَ, عَقِيقٌ أَحْمَرُ وَيَاقُوتٌ أَصْفَرُ وَعَقِيقٌ أَبْيَضُ وَزَبَرْجَدٌ وَجَزْعٌ وَيَشْبٌ وَيَاقُوتٌ أَزْرَقُ وَبَهْرَمَانُ وَزُمُرُّدٌ وَذَهَبٌ. أَنْشَأُوا فِيكَ صَنْعَةَ صِيغَةِ الفُصُوصِ وَتَرْصِيعِهَا يَوْمَ خُلِقْتَ، أَنْتَ الْكَرُوبُ (المقرَّب) الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ. وَأَقَمْتُكَ عَلَى جَبَلِ اللَّهِ (الآلهة) الْمُقَدَّسِ، كُنْتَ بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ).
وجعل الله من إبليس درسًا لعباده حين يتكبرون عن أمره قال عليّ (ع): (ثم اختبرَ بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم منْ المستكبرين، ولو أراد اللهُ أنْ يخلق آدمَ مِنْ نورٍ يخطف الأبصارَ ضياؤه، ويبهر العقولَ رواؤه، وطِيبٍ يأخذُ الأنفاسَ عُرْفُه لفعل. ولو فعلَ لظلّت له الأعناقُ خاضعةً، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة. ولكنّ الله سبحانه يبتلي خلْقَه ببعض ما يجهلون أصْلَه، تمييزًا بالاختبار لهم، ونفيًا للاستكبار عنهم، وإبعادًا للخيلاء منهم، فاعْتبِروا بما كان مِنْ فعْلِ الله بإبليس إذْ أحبط عملَه الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبدَ الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا أمْ سنيّ الآخرة عن كِبْرِ ساعةٍ واحدة. فمنْ ذا بعد إبليس يَسْلمُ على الله بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللهُ سبحانه ليدخل الجنّة بشرًا بأمرٍ أخرج به منها ملَكًا، إنْ حكْمُه في أهل السماء وأهل الأرض لواحدٌ، وما بين اللهِ وبين أحدٍ مِنْ خلْقه هوادةٌ في إباحةِ حمًى حرّمَه على العالمين).
أباح الربّ لآدم وحواء الجنّة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طـه: 118/119)، وحذرتهما الملائكة عداوة إبليس (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طـه:117) فضمير الجمع في “ُقلْنَا” يعنى أن القائلين هم الملائكة لا الله سبحانه. وعرفوه بالشيطان خلقًا وعداوة (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (لأعراف:27) وإنه يوسوس ويخيّل ويخوّف وإنّه سيستدرجكما للخروج من الجنّة ليدفعكما لمعاشرة البشر “الهمجيّين” ـ الشجرة غير المُخلَّقة ـ فلا تطيعانه (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35).
مرّ أدم حواء ذات يوم بالحوض الذي اغتسلا فيه عندما أدخلا إلى الجنَّة، فاستعجلا الخروج قبل أن تكتمل عملية تعليمهما وإعدادهما للخلافة، وقبل أن يحين موعد خروجهما المرهون بهلاك وانقراض سلالة البشر الهمج ( وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً) (الاسراء:11)، ونسيا تحذيرات الربّ والملائكة التي تقدمت إليهما (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، فبهذا الاستعجال والنسيان أصبحا في مرمي الشيطان الرجيم المتربص لهما في أسفل الجبل والمتحين الفرص لإغوائهما ليفسد برنامج الخلافة الإلهي في الأرض، (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طـه:115) فجذبهما الشيطان رويدًا رويدًا إلى خارج الجنّة (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) وطوعت لهما أنفسهما الخروج من الجنّة؛ لينحدرا إلى أسفل الجبل حيث يعيش الهمج، (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) (البقرة:36)، فانساب وزوجُه حواء عبر النهر المتدفّق لخارج الفردوس “نين بردو”1 . وبذلك تمكن الشيطان الرجيم من إخراجهما من جو الحشمة والعفّة والسمو الروحي إلى جو الشهوة الطافحة، فرأيا البشر الهمج في عريهم وسفادهم وفسادهم وعدم احتشامهم، ففارقا الجو الروحي السامي الذي عاشاه في الجنَّة مع الملائكة الكرام حيث الستر والتحشم والحياء والعفاف وحفظ الفروج وغضّ البصر وانتقلا إلى جو الشهوة الفاضحة ،( يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) (لأعراف:27) فاقتربا من الشجرة مخالفين الأمر الذي تقدم إليهما (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ).
قلمّا خرجا بدأ الشيطان مشواره معهما (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (لأعراف:20)، خدعهما بأن أوهمهما أنَّ النهي عن الخروج من الجنّة موجه للملائكة سدنة الجنّة القائمين عليها الخالدين فيها لا لهما، ثمَّ زين لهما الإقتراب من إناث البشر والإستمتاع بهنَّ لتكون لهما ذريّة خالدة على هذه الأرض، وألقى في خلدهما أنَّهما بَشَران يختلفان عن الملائكة خلقًا ووظيفة، الملائكة لا يتغيرون ولا يتطورون ولا يتناسلون أمّا هما فخلق مختلف. وما زال يوسوس لآدم حتّى أغواه ودفعه لمعاشرة إحدى الهمجيات. (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) (طـه:120) ألا تريد أن تكون لك ذرية خالدة؟ فإن كنت تريد فعليك بمعاشرة شجرة الهمج.
فالشجرة المنهي عن قربها إذن هي شجرة البشر الهمجيين لا شجرة نباتيّة. وورد هذا المعنى في التراث السومري، فالسومريون سمّوا هذه الشجرة “فروسيا” وتعني الحيوانيّة الشهوانيّة، (فإنّك الآن قد تميّزت عنها فإيّاك أن تختلط بها جنسياً، فتسلّل إبليس كما تتسلّل الحيّة إلى آدم وحواء، فأغواهما بالخُلد والملك على شاطئ “نين بردو Nunbirdu“.
ويسوق الكتاب دليله على أنَّ الشجرة ليست شجرة نباتيّة كما هو مشهور وإنّما هي شجرة البشر الهمج، فيقول أنَّ ذاق وردت في القرآن الكريم 63 مرّة كلّها تفيد الإحساس الحقيقي البدئي حسب نوعية المحسوس وآلة الذوق، (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (النحل:112)، (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) (الطلاق:9)، (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) (الأنعام:148)، (ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) (الحشر:15)، (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) (النحل:94)، (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) (المائدة:95)، (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) (صّ:8)، ( لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء:56)، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) (الدخان:56)، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً) (النبأ:24)، (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (صّ:57)، (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49)، (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181)، (ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت:55)، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (الذريات:14)، (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (القمر:48)، (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:35)، ( فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37)، فذاق هنا لا تعني أنّهم أكلوا طعامًا ماديًا تفاحة أو حنطة أو نحوها كما ذهبت إليه كتب التفسير المتأثرة بالإسرائيليات، وكما توهم به كلمة أكلا (فَأَكَلا مِنْهَا) (طـه:121). فذوق الشجرة يحاكي الأكل من الشجرة، وهذا فعله الإثنان آدم وحواء، فالنظر للجنس الآخر تورث شهوة، لذلك عدَّ المسيح (ع) “الزنا زنا العين قبل زنا الفروج”، وأكد ذلك تراثنا الإسلامي، فالنفس إذا نظرت إلى شيء أعجبها فقد ذاقت، وإن طال وقوفها واستمتاعها فقد أكلت واستمتعت وإن لم تفعل ذلك إلا بالعين، وكذلك الغيبة (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات:12) فعبرت الآية الشريفة عن تلذذ المغتاب بالغيبة بلسانه أو سمعه أكلاً.
ومادة شجر في اللغة تعني كما جاء في تاج العروس: “كلّ ما كان له أصلٌ واحدٌ وجاءه شيءٌ يفرّقه فتفرّقَ فهو “شجر”، ورد هذا المعنى في الاختلاف بين النّاس (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(النساء:65)، وفي النيران (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) (الواقعة:71،72) وفي العائلة والسلالة (والشجرة الملعونة في القرآن)(الإسراء:60) قال عليّ (ع) في مدح النبي (ص): (أُسْرته خيْرُ الأُسَر، وشجرتُه خيرُ الشجر). وقال (ع) أيضاً للمغيرة بن الأخنس: (يا بن اللّعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت تكفيني؟!)، وعن ابن عبّاس: أمر الله جبريل بإخراج آدم فقبض على ناصيته، وخلّصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال: أيّها الملك ارفق بي، قال جبريل: إنّي لا أرفق بمن عصى الله، فارتعد آدم واضطرب وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته ويعدد نعم الله عليه. لا حظ عبارة “وخلّصه من الشجرة التي قبضت عليه”، فأنى لشجرة نباتية أن تقبض عليه! فالشجرة إذن ليست شجرة نباتية وليس الذوق والأكل منها ذوقًا وأكلاً لطعام مادي. وإنمّا هي إحدى إناث البشر الهمج.
فآدم وحواء كلاهما ذاقا الشجرة، ولكن اختلفا في مقدار ما ذاقاه منها، فحواء اقتصر ذوقها على تلذذها بالنظر إلى الهمج في ممارستهم الجنسيّة الحيوانيّة فيما بينهم، فتحركت نيران الشهوة لديها، ولكنَّها لم تعاشر أحدًا من الهمج لذا لم يشر القرآن الكريم أنَّ حواء عصت وغوت كما أشار إلى آدم (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، من هنا نفهم أنَّ آدم هو الذي اقترف المعصية والغواية أمّا حواء فلا.
علم آدم وحواء أنَّ الشيطان استزلهما عندما سمعا نداء الرب:( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (لأعراف:22) فأرادا الرجوع إلى الجنَّة فغمرتهم ظلمة شديدة لم يستطيعا معهما تلمس موقع أقدامهما إليها، فأخذا يتلمسان الطريق عبر تتبع واقتفاء أوراق أشجار الجنّة لعلها توصلهما إلى باب الجنّة ( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ1 عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (لأعراف:22). تمكنت حواء أخيرًا من دخول الجنّة؛ لأنَّها ما عصت وما غوت، أمّا آدم فلم يهتدِ السبيل فضلَّ الطريق؛ لأنَّه عصى وغوى. جاء في أسطورة إيتانا والنسر: من منا ينتهك حدود الرب، فيفقدْ الطريق ولا يعدْ يعرف الدرب، ولتبعدْه الجبال عن منافذها، والسهم الذي يطلق فليرتدَّ عليه، وليصرعْه فخّ الرب المحرم ويجعله أسيرًا.”
لقد تجاوز آدم الحدّ عندما عصى ووقع في الغواية (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). فأودع في رحم أنثى الهمج بذرته “ثمرة الخطيئة” سماها التراث السومري “مِيلا مطْعايا”/ميلا متعايا/ميلا متايا (Melametaea وتعني الميل الطاغي والإنحراف الذي جاوز الحدّ وطغى على عقل صاحبه، فسقط دوره في الخلافـة، (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طـه:115)، فانسلخ من آيات الله فأتبعه الشيطان (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (لأعراف:176). فآدم هو المعني بهذه الآية لا كما هو مشهور في كتب التفسير أنَّه بلعم بن باعورا. ” فَانسَلَخَ” من لباسه الرباني من علمه من خلقه من عفافه وأدبه ” فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ” ليوقعه في الحضيض لمّا أخلد إلى الأرض ” وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. وبمعاشرة آدم إحدى الهمجيات تمكن الشيطان من مشاركة آدم في ذرّيته،( وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ) (الاسراء:64).
كانت معصية آدم إذن خارج الجنّة على الجبل القريب منها، فلمّا عصى أهبط (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36)، وبعد المعصية جرت عملية إبعاد شاملة لكل المتواجدين على الجبل بالقرب من الجنّة من بشر همجيين وجنّ وآدم والشيطان، إلا أنَّ حواء لم تكن من هؤلاء المبعدين؛ لأنَّها استطاعت العودة إلى الجنّة مرة أخرى.
ما عاد آدم مؤهلاً للخلافة في الأرض بعد أن عصى، فاقتضت المشيئة الإلهيّة أن تتولى ملائكة التدبير “الأرباب” (الملائكة الأربعة العظام جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ع) ) هذه المهمة، فأمر الربُّ الملائكةَ بالبقاء في الجنّة “المحلّـة الآمنة” للقيام بأمر الخلافة بدلاً عن الإنسان آدم وذريته، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ)(المرسلات:11/13)، ليدبروا شئون الأرض من رياح وأمطار وأرزاق وأعمار وغير ذلك، جاء في الإنجيل (قَائِلاً لِلْمَلاَكِ السَّادِسِ الَّذِي مَعَهُ الْبُوقُ: «فُكَّ الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئِكَةَ الْمُقَيَّدِينَ عِنْدَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ الْفُرَاتِ»، فَانْفَكَّ الأَرْبَعَةُ الْمَلاَئِكَةُ الْمُعَدُّونَ لِلسَّاعَةِ ..)(الرؤيا 9: 14،15 ).
بقيت حواء في الجنَّة بعد أن عادت إليها مدَّة مديدة، فلمّا تاب الله على آدم، أُمرت بالخروج لتحمل إليه كلمات التوبة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة:37)، ومن المزدلفة أزلفت إليه، وعلى جبل عرفات التقت به وسلمته كلمات التوبة، التي تضمنت أمورًا منها: أنَّ الله سبحانه قد تاب على آدم، وأذن بجمع شمله مع زوجته حواء، ووعده بذريّة تعمّر الأرض حتى قيام الساعة، وأنَّ الله سيبعث في ذريته أنبياء ورسلاً مبشرين ومنذرين يهدونهم الطريق المستقيم، (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه: 122/ 123). وما عاد بوسع آدم وحواء وذريتهما أن يدخلوا الجنّة إلا أرواحًا بعد الموت. جاء فى الحديث: “يا آدم لا تجزع من قولى لك “اخرج منها” فلك خلقتها ولكن انزل إلى الأرض وأذلّ نفسك من أجلي وانكسر فى حبّي حتى إذا زاد شوقُك إليّ وإليها تعالَ لأدخلك إليها مرة أخرى، يا آدم كنتَ تتمنى أن أعصمك؟ قال آدم نعم، فقال: “يا آدم إذا عصمتك وعصمتُ بنيك فعلى من أجود برحمتى؟ وعلى من أتفضل بكرمي؟ وعلى من أتودّد؟ وعلى من أغفر؟ يا آدم ذنب تذلّ به إلينا أحبّ إلينا من طاعة تراءي بها علينا، يا آدم أنين المذنبين أحبّ إلينا من تسبيح المرائين”.
وكان من ضمن من أُمروا بالهبوط بعد توبة الله على آدم ملائكة التدبير، (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)، فكلمة “جَمِيعاً” تفيد أنَّ كلّ من كان مقيمًا في الجنّة أو بالقرب منها قد أمر بالهبوط، وشمل الأمر ملائكة التدبير الذين سجدوا لآدم كما شمل آدم وحواء وإبليس وأعوان إبليس والجنّ والبشر الهمج. وكان هذا هو الهبوط الثاني؛ لأنَّ الهبوط الأول كان إلى منطقة قريبة من الجنة، بدأ بإبليس ثمَّ آدم أمّا في هذا الهبوط فقد أبعد الجميع إلى منطقة بعيدة عن الجنّة. كانت غاية هبوط الملائكة الذين سجدوا لآدم القيام بمهمة الخلافة في الأرض نيابة عن آدم بعد أن عصى؛ لأنَّه بعد معصيته ما عاد قادرًا على النهوض بهذه المهمة الجليلة.
ينتقل الكتاب بعد ذلك ليزيل تناقضًا في الفكر الديني مفاده: إذا كان الأنبياء معصومين فما بال آدم قد عصى بمنطوق القرآن الكريم ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طـه:121) ؟
ويجيب كان هناك آدمان، آدم الإنسان الأوّل، وهو الذي عصى وهو ليس بمعصوم، وآدم النبي المصطفى المعصوم المخلَص وهو الذي جاء من نسله الأنبياء الكرام (ع) وقد أخبر بذلك الله سبحانه والشيطان عليه اللعنة أيضًا فيما نقل الله عنه أن لا سلطان له على المخلَصين : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر: 39/42)، (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (صّ: 82/83)، وقال: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24)، فـ” الْمُخْلَصِينَ” معصومون لا سلطان للشيطان عليهم، ولمّا علمنا أنَّ آدم قد عصى وغوى، علمنا أنَّه ليس من “الْمُخْلَصِينَ” المعصومين. وما آدم المصطفى المذكور في هذه الآية إلا آدم آخر غير آدم العاقل (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33/ 34) فآدم في هذه الآية هو آدم النبي المصطفى المخلَص الذي جاء بعد آدم الأول بآلاف السنين. جاء في الحديث الشريف أنَّ أبا ذر سأل النبي (ص): يا رسول الله كم الرسل منهم، قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير، قال يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ وهو إدريس، وهو أوّل من خطَّ بالقلم. فكيف يكون آدم الإنسان الأوّل سريانيًا، والسريانيّة لغة نشأت بعد آدم الأوّل بأمد طويل، فلابدّ إذن أن يكون آدم المقصود في هذا الحديث غير آدم الأوّل.
طبعًا هذا فرض من يقول أنَّ العصمة ملازمة للأنبياء منذ ولادتهم، أمّا على رأي من يقول أنَّ العصمة ليست بالضرورة أن تكون منذ الولادة بل هي بالمجاهدة والإكتساب، فبإمكاننا تصوّر عصمة لآدم الإنسان الأوّل بعد المعصية والتوبة والإجتباء لا قبلها، ويمكن أن نتصوّر نبوته لنفسه ولأهله بمعنى اتصاله بعالم الغيب والملائكة وتلقيه التسديد.
وينتقل الكتاب إلى مبحث آخر فيتحدث عن ذرية آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، أخذ “مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ” تعني أنّ الربّ أخذ البرمجة التوحيديّة المرتبطة بالتركيب العضويّ أو الجينيّ للخلق من ظهر آدم الإنسان الأوّل وبثها في ذريته، فقد ورد حديث مُعجِزٍ للنبيّ (ص) عن عَظْمَةٍ في أسفل العجز في آخِر فقار الظهر (العصعص)، تُسمّى “عَجْب الذنَب”، وأنّها لا تفنى مع الميّت، (كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجْب الذنب، منه خلق، ومنه يركب) وروى البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي: (ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا بلي إلا عظم واحد وهو عجْب الذنَب ومنه يركب الخلق يوم القيامة.)
كان التخطيط الإلهي يقتضي أن يبقى آدم وحواء في الجنَّة ولا يخرجا منها حتّى يكتمل البرنامج الإلهي، فإذا اكتمل برنامجهما وخرجا وتناسلا كان نسلهما نسلاً إنسانيًا خالصًا من آثار الهمجيّة، مؤهلاً لأن يعي خطاب الربوبيّة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، وكان من المقدر أيضًا أن لا يخرجا من الجنّة إلا بعد أن تهلك شجرة البشر الهمج شيئًا فشيئًا نتيجة إفسادها والكوارث الطبيعيّة التي ستضرب الأرض، ولكنَّ آدم استعجل وخرج من الجنّة قبل أوانه (وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً) (الاسراء:11)، وعاشر إحدى الهمجيات، “مِيلا مطْعايا”/ميلا متعايا/ميلا متايا (Melametaea، فكان له نسل منها، فخرج هذا النسل هجينًا فيه روح إنسانيّة ورثها من أبيه آدم وروح همجيّة ورثها من أنثى الهمج، فقضت المشيئة الإلهيّة أن يُصلح هذا النسل الهجين ليكونوا على الفطرة التي فطر الله عليها آدم وحواء ليعرفوا ربهم ويقروا له بالوحدانيّة لتنتقل هذه الفطرة الموحدة وراثة عبر الأجيال من جيل إلى جيل، فكلما تقادم الزمن قويت القوى الإنسانيّة الموروثة من آدم وضعفت الروح الهمجيّة الموروثة من الهمج.
أما كيف تنتقل برمجة الفطرة من آدم إلى ذريته فيمكن تشبيه الإنتقال بانتقال الروح الإنسانية، فالروح الإنسانيّة التي هي نفخة الرب في آدم وحواء انتقلت إلى ذريتهما وراثة، كذلك برمجة الفطرة انتقلت وتنتقل في ذرية آدم وراثة. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(الروم:30). وينبغي أن ندرك أنَّ هناك نسلاً آخر لآدم من حواء بعد أن أخرجت من الجنّة لمّا تاب الله عليه، وكان هذا النسل إنسانيًا نقيًا من الهمجيّة، ومن هذا النسل تولد الأنبياء (ع).
ثمَّ ينتقل الكتاب إلى مبحث آخر فيطرح هذا التساؤل: كيف تكاثر أبناء آدم من حواء، فهل تزوج الإخوة أخواتهم كما تشير إلى ذلك الإسرائيليات التي نقلها بعض المفسرين أم ماذا؟
يستشهد بهذه الآية (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (لأعراف:26) ليخرج بفهم جديد مفاده أنَّ النداء في هذه الآية موجه لبني آدم يعلمهم أنَّ الله أنزل عليهم لباسًا يواري سوءاتهم، وهذا اللباس يعني زوجات تحصنهنَّ من معاشرة الهمجيات فكيف فهم أن ” لِبَاساً” تعني زوجات، ومن أين جاءت هذه الزوجات؟
يقول الكتاب: أتيحت الفرصة لعدد من إناث الهمج دخول الجنّة بعناية ربانيّة فأعيد تخليقهن كما خلّق آدم وحواء ونفخت فيهن الروح كما نفخت في آدم وحواء ثم أنزلن ليكن زوجات لأبناء آدم وهذا ما يشهد به القرآن والرويات المروية عن أهل البيت (ع) فكلمة ” لِبَاسٌ” في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة:187) الآية تقرر أنَّ المرأة والرجل كلاهما لباس للآخر يستر سوأته، كي لا تفضحه الشهوة، فـبالجمع بين الآيتين نعرف أنَّ “لباساً” زوجات تحصن أبناء آدم من الغواية وعقب بـ ” (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف:26)، لأنّ الغاية من إعادة تخلق عدد من الإناث حفظ أبناء آدم من الغوية لينشأ نسل مخلّق من زواج شرعي، (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) (لأعراف:27)، بإنزال إناث مخلقات من الجنَّة صار نكاح أبناء آدم نكاحًا شرعيًا، وهذا المعنى في عقيدة المندائيين موجود فقد أثر عنهم: (أنّ بنات آدم لم يتزوجن إخوتهن، وإنما أمَر الله بنقل بنات آدم إلى عالم آخر يُسمّى (عالم العهد) فيتزوجن هناك، وجيء بفتيات من العالم المذكور تزوجن أبناء آدم. وبهذا (الانتقال) تخلّص الدّين الصابئ من أسطورة الزواج من الأخوات، لأنّ الدين الصابئ يعتبره محرّمًا).
وفي الروايات: (أهبط الله على آدم حوراء يقال لها ناعمة في صورة إنسيّة، ثم ولد لآدم هابيل فلما أدرك أهبط الله إلى آدم حوراء واسمها نزلة). وعن الإمام جعفر الصادق (ع): (إن الله عز وجل أنزل حوراء من الجنّة إلى آدم فزوّجها أحد ابنيه وتزوّج الآخر من الجنّ فولدتا جميعا، فما كان من الناس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء وما كان فيهم من سوء الخلق فمن بنت الجان)، طبعاً، لا يشكّ عاقلٌ أنّ “الجانّ” هنا لا يمكن إلاّ أنْ يكون النوع البشريّ الآخر الوحشيّ غير العاقل المُختفي في المغارات والكهوف، وليس الجنّ المخلوق من نار1. وعن الباقر (ع): (إنّ آدم لما ولد له أربعة ذكور، فأهبط الله إليهم أربعة من الحور العين، فزوّج كل واحد منهم واحدة فتوالدوا)، والحور العين أصلهنّ من فتيات الهمج اللاتي يسكنّ الكهوف، لأنّ “حور” أو “أور” هي المغارة، أُخذن إلى الملائكة الصافّات في الجنّة وأعيد تخليقنَّ.
هذا يعني أنّ الرواة قد علموا بالفكرة بأنّ ثمّة تخليقاً آخر غير الذي جرى على آدم وحوّاء، فالروايات أثبتت وجوداً للتزاوج مع الجنس الهمجيّ بعد أن خلِّّق (وتزوّج الآخر من الجنّ). وقد سأل رجلٌ جعفر الصادق (ع): كيف بدأ النسل مِن ذرية آدم (ع) فإنّ عندنا أناسا يقولون: إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم (ع) أنْ يزوج بناته من بنيه، وأنّ هذه الخلق كلهم أصله من الإخوة والأخوات، فقال الصادق (ع): سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرًا، يقول من يقول هذا: أنّ الله عزّ وجلّ جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر والطيب؟. قال زرارة: سئل (ع) عن خلق حواء فقيل له: إنّ أناسا عندنا يقولون: إنّ الله عز وجلّ خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، قال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا! يقول من يقول هذا: أنّ الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجةً من غير ضلعه، وجعل لمتكلِّمٍ من أهل التشنيع سبيلاً إلى الكلام يقول: إنّ آدم كان ينكح بعضُه بعضًا إذا كانت من ضلعه، ما لهؤلاء؟ حكم الله بيننا وبينهم. وقال الصادق (ع) أيضاً: (أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة اسمها “بَركة” فأمر الله عز وجل آدم أنْ يزوّجها من شيث فزوجها منه، ثم نزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة اسمها “مُنزلة” فأمر الله عزّ وجلّ آدم أنْ يزوّجها منْ يافث فزوّجها منه فولد لشيث غلام وولد ليافث جارية، فأمر الله عزوجل آدم حين أدركا أنْ يُزوّج بنت يافث من ابن شيث، ففعل ذلك فولد الصفوة من النبيين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أنّ ذلك على ما قالوا مِنْ الإخوة والأخوات).
وهذا يُبيّن أنّ التوحيد والوصايا الإلهيّة وأخلاق السموّ والعفّة والإعتدال، قد بدأت منذ آدم لا أنّها تطوّرت، روى عن النبي (ص): (علَّم اللهُ تعالى آدمَ ألْفَ حرْفةٍ مِن الحِرف وقال له: قُلْ لولدك وذرّيتك: إنْ لمْ تصبروا فاطلبوا الدنيا بهذه الحِرَف ولا تطلبوها بالدّين، فإنّ الدّين لي وحدي خالصا، ويلٌ لمن طلبَ الدنيا بالدّين، ويْلٌ له)2، وهذه الآية تشهد بذلك (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف:35) الجيل المخاطب بهذه الآية هو قطعًا جيل ما قبل مرحلة الرسل، وجاءت الرسل بالآداب والأخلاق والعلوم، ومن هذه الآداب اللباس وستر العورة، وتذكيرهم بكيد الشيطان لأبيهم آدم وتحذيرهم من كيده، لأنَّه يراهم من حيث لا يرونه.
بعد أن عرفنا من القرآن قصّة آدم ومعصيته الأولى ومقاربته الشجرة (السلالة البشرية الأخرى) سلالة الهمج، يمكن أنْ نتصوّر نسلاً لآدم من تلك الأنثى من أنثى الهمج التي عاشرها، وباعتبار أنّ تلك الأنثى بلا هويّة كالبهائم، فلا اسم لها، لكنّ ابنها هو ابنُ آدم، فهو إنسان هجين منْ “عناق” البشر الإنسان والبشر الهمج، فكان النسل المتولد نطفة مخلّقة وأخرى غير مخلّقة، مخلقة من آدم وغير مخلقة من أنثى الهمج، لكنّه يُعدّ في ديوان الإنسان ابن آدم فالجنس السائد جينياً هو الإنسان كيفما كان التزاوج بين هذين الجنسين. ولمّا كانت المعاشرة المحرّمة التي اجترحها آدم بلغتْ “أوج” المخالفة “ميلا مطغايا” أو “ميلا متعايا” بالسريانية، ميلاً طاغيا بلغ ” الأوج”، وأنّه “عِوَج” عن السبيل الربّانيّ، فالثمرة هي “أوج/عوج” بن “عناق”، والعناق هو المعاشرة ليس إلاّ، وهو تعبير آخر لـ “ثمرة المعصية” “تفّاحة آدم” “ثمرة الشجرة المحرّمة”. فهذا الوليد الذي تمخّض من هذا الـ”عناق” في “أوج” المخالفة، يحمل بذرة الـ”عوج”، فتربّى مع سلالته المتوحّشة وبيئته، وبتزاوجه انتشر “الجين” الإنساني وساد فيهم، لكنّ جنسه السابق المتوحشّين ذوي الأبدان القويّة، تمّ طردهم من جوار الجنّة بعد المعصية، ثمّ بالطوفان أُبيد معظمه في المنطقة، لذا نسمع في المدوّنات التراثية والخرافات عن تعلّق هذا الجنس بقارب نوح ومحاولتهم إغراق السفينة.
لكنّ تزاوج الإنسان بنساء ذاك الصنف ظلّ سائداً لدى العصاة على طول الخطّ ليولّد جنساً إنسانياً عاقلاً فيه من التوحّش والبطش، التزاوج الذي تُطلق عليه التوراة أنّه يتمّ بين “أبناء الله” و”بنات الناس”، فنتاجه يستحقّ أنْ تسمّيه أسطورة التوراة “بني عناق”، لأنّهم هكذا تولّدوا، من شهوة فقط لا قانون أسرة، إذن “عوج بن عناق” رمزٌ لمن يتولّد من سفاح بين المُخلوق الإنسانيّ (المُخلّق) وبين إناث الآخر المتوحّش (البشريّ)، بل هو كلّ نتاج يأتي من نكاح يجري وفق الطريقة الهمجية لا الربّانية، لذلك وصفت بعض القصص أنّه طويلٌ جدا وحين يستلقي يمتدّ إلى مسافة شاسعة على الأراضي، ذلك لأنّه أمّةٌ من البشر المفسد لا فردٌ واحدٌ كما يُتخيّل.