قالت سيّدة لجارتها متعجّبة، لا أدري كيف تستطيعين العيش وسط كلّ هذه المشكلات والفوضى التي تُحيط بك، فلديك مشاكل في العمل والبيت ومع أولادك، ومن يراك يعتقد بأنّ حياتك سلسة خالية من أيّ تعقيد، فردّت عليها الجارة مبتسمة، أنا أعيش الصعوبات وأتفاعل معها ولكنّي أنظر للأمور بشكل مختلف، فحين يتأفّف ابني المراهق ويعترض على كلّ شيء، أشكر الله لأنّه في المنزل ولا يتسكّع في الشوارع، وحين أرجع من عملي ورجلاي منهكتان من التعب وبالكاد أخطو خطوة أخرى، أشكر الله لأنّ لي رجليْن وبأنّي أستطيع أن أقوم بالأعمال الصعبة وأُعيل عائلتي، وحين يضيق قميص ابني الذي لا يملك غيره، أشكر الله لأنّني أستطيع إطعامه لينمو، وحين أصرف ساعات راحتي في ترتيب البيت وتنظيفه، أشكر ربّي لأنّ لي بيتاً أسكن فيه، وحين أنتهي من أعمال الخياطة التي أقوم بها ليلاً لأحسّن من دخل أسرتي، وأنهض على صوت الساعة باكراً مع إنّي لم أحصل على ساعات نوم كافية، أشكر الله بأنّي لازلت حيّة وأستطيع أن أستقبل يوماً جديدا، وحين يأتي العيد وأضطر لكي أعمل ساعات إضافيّة لأشتري ثياباً لأولادي وضيافة وحلوى، أشكر الله أنّ لديّ أهلاً وأصدقاء يزوروني وأقوم بضيافتهم.
من المستبعد أن يعيش إنسان حياة لا يوجد فيها تحدّيات ومشاكل، وإن كانت كذلك، فهذا معناه أنّها خالية من الإثارة والأمل والطموح والحركة، وإنّ ذلك الشخص لا يطمح لتطوير أيّ جانب من جوانب حياته، ومَن هو كذلك، لن تتطوّر شخصيّته ولن يتعلّم أو يرقى، فالتحدّيات والصعوبات هي التي تعرّف الإنسان جوانب ضعفه ليتغلّب عليها، وتُبرز جوانب قوّته ليستند عليها، وتفتح له أبواباً للمجالات التي يستطيع أن يرقى بها إنسانيّاً.
إنّ مفهوم المطالبة والأخذ والاستحقاق من الحياة يطغى في ثقافة الكثير من الناس بشكل أكبر من مفهوم الشكر والعطاء والامتنان، وإن كان هذا المفهوم مبطّناً تحت مفاهيم أخرى تبدو أكثر اتّزاناً، فمن يخرج من بيته صباحاً متوجّهاً إلى عمله مثلاً، يحسب أنّه من المفترض أن يرجع إلى بيته سالماً دون أيّ أذى، مع أنّه لو حسب الاحتمالات الرياضيّة للأخطار التي قد تواجهه منذ لحظة خروجه من المنزل حتى رجوعه لأصابته الدهشة، وعرف بأنّ رجوعه سالماً ليس أمراً مسلّماً عاديّاً، فقد يقود شخص سيّارته لسنوات دون حادث، أو حوادث بسيطة، بالرغم من مروره بمئات السيّارات يوميّاً، واحتمال ارتكاب كلّ سائق منهم خطأ أو غفلة أثناء السياقة، إضافة لاحتمالات ارتكابه هو لغفلة وأخطاء، ناهيك عن الظروف الأخرى التي قد تكون في الشارع كالخلل الذي من الممكن أن يقع في سيّارته أو سيّارات الآخرين، فلو فكّر بذلك لعرف بأنّ رجوعه للبيت كلّ يوم سالماً يستدعي التأمّل فعلاً.. إن لم يكن الشكر.
ففي أيّ وضع نكون وفي أيّ حال، نستطيع أن نقرّر بأن نرى الاحتمالات المنطقيّة غير المحمودة بالنسبة لنا، والتي كان من الممكن أن تقع بدل تلك التي نحن فيها، ونشكر الله على عدم وقوعها، ونُقدّر الحياة وما نحن فيه، ونعمل على أن نطوّر من أنفسنا ومن حياتنا ونتخطي صعوباتنا من وضع تقدير ورضا وليس مطالبة وسخط، فيساعد هذا على سدّ المنافذ لأيّ شعور بالمسكنة والشفقة على النفس، وأن نخطو خطواتنا نحو التطوير ونحن نستشعر السلام بداخلنا، وينعكس ذلك على اتّزان تفكيرنا وعواطفنا، فتزداد احتمالية أن نأخذ قرارات مدروسة وليس انفعاليّة، وألّا نقع فريسة الطمع والجشع والرغبة في الوصول السريع للتخلّص مما نحن فيه، وقد نكون ممّن تشملهم الآية الكريمة “لئن شكرتم لأزيدنّكم”، وهذه الزيادة لن تكون في أوضاعنا المادّية والمعيشيّة فقط، بل تمتد وتنغرس في رقيّنا الإنسانيّ أيضاً، فنستطيع بها أن نستطعم نعمة الحياة التي وهبها الله لنا ولا نسمح للظروف بأن تختطفها منّا.