ثمة سيمفونية موسيقية رائعة صنعتها أحداث وشخصيات يوم عاشوراء وأرض كربلاء، ولولا اجتماع الشريف والمولى، الطفل والشيخ، المرأة والرجل، المسلم والمسيحي، المختلف والموافق، ولولا استجابتهم جميعاً بتناغم وانسجام لنداء الواجب في زمن الظلم والاستبداد، لم تكن لتكتمل لتعزف لحن العزّة والإباء الأبدي الخالد بترنيمة حسينية حكيمة (ما خرجت إلاّ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي).
سيمفونية عاشوراء مقطوعة موسيقية عزفتها مجموعة آلات موسيقية (أوركسترا) لا آلة منفردة فتسمع اللحن يتقلّب بين نغمة الناي الحزين، وغضب أو صخب أصابع البيانو، وعذوبة أوتار الرباب، ورخامة صوت العود، وقوة ضربات الطبول، لتُنتج (معاً) مقطوعة فنيّة (معجزة) لا يملّ سامعها، مهما تقادم الزمن، أو امتلأت بشُحنة من الأسى العميق، معجزة هيّجت الشعراء وألهمت الأدباء والخطباء، وفتّقت قرائح كلّ مقروح، حين صوّرت مقطعاً تاريخياً فريداً في عمر الإنسانية، أفصحتْ عنه بشتى المشاعر والعواطف حيث اضمحلت الأسماء، وتماهت الأدوار فعُرفوا جميعاً بـ(أنصار الحسين) يُذكروا كلما ذُكر الحسين (ع)، فتميّزوا بأوصاف مشتركة لا بعناوين منفردة، بلا تمييز بين من كان رسولاً للحسين (ع)، أو جنديّاً، أو حارساً للخيام، أو قائد كتيبة، أو ساقياً للعطاشى، أو حادي القافلة، أو مربّياً، أو خادماً.
الحسين (ع) كان قائد هذه (الفرقة) المناقبية، المجهول أكثر أعضائها، تلك التي أنتجت معزوفة “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”، لا بالمعنى التراجيدي المأساوي الذي يحاول البعض أن يحبس أعظم قضية إنسانية بين قضبانه، بل بمعنى تحمّل المسئولية العامة والشاملة والدائمة، والاستجابة لنداء الواجب في كل مكان (أرض) وكل زمان (يوم)، من قبَل كلّ من ينتمي إلى الفطرة الإنسانية بقيَمها التي سُقيت بدم الحسين وأولاد الحسين وأصحابه آنذاك.
“أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاهم الله عني خيراً”
، هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين أتقنوا إخراج هذا اللحن الخالد بمعية الحسين (ع) وقيادته، لولاهم لكان عزفاً جنائزياً كئيباً، لا يذكّر إلا بمصرع الحسين (ع) ومأساة خذلانه، لا بانتصار قيمه وانتشار مبادئه، ينعى تناثر الأشلاء ولا يذكر قهقهات الشوق للقاء الله في ظلمة ليل العاشر من محرم الحرام، يندب حظ الثكالى وفزع الأطفال ولا يروي حكاية الصمود والتفاني والاحتساب.
تذكر كتب التأريخ أنّ الذين استشهدوا مع الحسين (ع) من أهل بيته كانوا حوالي ثلاثين شخصاً، ومن أصحابه ما يناهز المائة، ولكن يتراوح عدد الذين كثر ذكر قصصهم وترديد أسمائهم بين العشرين والثلاثين فقط كالعباس (ع)، وعلي الأكبر، والطفل الرضيع، ومسلم، وبرير، وجون، والحرّ، وزهير، وحبيب، وأم وهب، وغيرهم، وبقي الآخرون مجهولين لا تعرف كتب التاريخ إلاّ أسماءهم وأحياناً كنيتهم، وربما المنطقة التي أتوا منها للالتحاق بقافلة الحسين (ع)، وبعضهم يُعرّف بأنه كان قارئاً للقرآن، أو عارفاً بالعربية، أو تُختصر سيرته الذاتية في كلمة واحدة فقط: (مولى)، ومعظمهم يتبع ذكر اسمه (لا نعرف عنه شيئاً آخر)، وقليل منهم من يُذكر عنه أنه (كان مشهوراً في قومه) أو (محترماً بين أهله).
إلى هؤلاء المجهولين يرجع فضل سرمدية عاشوراء، هؤلاء الذين تحرّكوا بتخطيط ذاتي، ودوافع ذاتية، وحوافز ذاتية، وشعور ذاتي، والتزامات ذاتية، لم تؤخذ منهم بيعة، ولم تصلهم رسالة خاصة، وإنما تسامعوا بنهضة الحسين (ع) فتأهّبوا، لم ترهبهم الكثرة، ولم يثنهم قول من قال عنهم أنهم خرجوا عن الجماعة وفرّقوا الأمة، هم الذين استطاعوا أن يفكّوا شفرة رسالة الإمام (ع) وقرأوها بوعي حيث كتب: “من لحق بي فقد استشهد، ومن تخلف لم يبلغ الفتح .. والسلام”، فعلموا أنه (ع) لا يعني بالفتح غزواً خارجيّاً أو احتلالا جغرافياً، فلا خير في فتح لخارج يكون من داخلٍ آئلٍ للانغلاق بخنق مبادئ الكرامة والحرّية والعدل والشورى من قبل الطاغوت، فخرجوا معه للفتح الداخليّ أيْ (لطلب الإصلاح).
هؤلاء الأصحاب لم يَعدموا مبرّرات التخلّف والقعود التي تذرّع بها آخرون من حرارة جوّ لاهب آنذاك، واشتغال الذمّة بالديون، وكثرة العيال، والخوف من تضييع أمانات الناس، والاقتصار بالتضحية بالمال دون النفس، أو على جهاد مشروط بتحقيق النصر، فأصرّوا على الاستمرار رغم قلّة العدّة وخذلان النّاصر، وقد كان أكثر من ثلثيهم يسير بلا راحلة، وواجه كثيرٌ منهم صعوبة الالتحاق بركب الإمام حيث كانت البصرة تحت حكم شديد الإرهاب، والسلطة ترقب من يحاول التسلّل حتى اضطر بعضهم أن يدسّ نفسه في صفوف جيش زياد ليخرج من الكوفة ومن ثمّ يتسلّل لمعسكر الحسين (ع).
لا نعرفهم بأسمائهم، ولا بتفاصيل أعمالهم، ولا حتى بجميل صفاتهم سوى أنهم كانوا أحراراً وطلاّب إصلاح، لم يساوموه على النصرة، بل لم يسألوه حتى عن الدور الذي يريدهم القيام به، كلّ منهم عرف واجبه، واختار دوره، وأدّاه (بصمت)، لم ينتظر جزاء وصيتاً وشكوراً، لأنّ لذّته في أداء واجبه (الإصلاح)، واجبُه أن يضفي إيقاعه الخفيّ في ملحمة الخلود الحسينيّ، ولا ضير إن كان نكرة في الناس ومعروفاً في علّيّين.