حالما نفقد اتصالنا بالسبب الذي به منحنا الله سبحانه وتعالى نعمة ما، نبدأ بتجريدها من غايتها السامية والروحانية، وننظر إليها بخواءٍ نظرة بشرية بحتة، فنفقد المنظور الصحيح الذي يرى الصورة كاملة، ليحلّ محلّه سراب سطحي ضيق.
نعمة “الأكل“ هي إحدى تلك النعم التي أعطانا إياه سبحانه لغرض ما، فغاب أو تشوّش ذلك الغرض أو أريد له أن يغيّب لأغراض بشرية طامعة، ليحلّ محلّه حبّ الأكل بشهوة وإفراط، والمبالغة في التعلّق به. والسؤال هنا؛ لما أعطانا سبحانه هذه النعمة، يا ترى بم وصانا؟ وكيف أراد لنا أن ننظر لها؟ هل هي محض شهوة ومتعة ولذة نتصرف فيها كيفما نشاء؟ أم هي منحة وعطية يتوجب علينا رعايتها بحكمة وحسن تدبير؟!
ولنعثر على الجواب، عدنا للمرشد والكتاب الهادي، المليء بالوصايا والتعليمات الراقية التي صممت على مقاس الإنسان ولصلاحه، لنجد أنّ جميع الوصايا التي تبتدئ بـ”كُلُوا” من الطيبات والثمر والحلال الطيب، لم تأتِ منفردة ومفتوحة على مصراعيها، وإنما اقترنت دائماً بتعليم آخر يقوّمها ويوجّهها، ليجعل من الشهوة البشرية الهمجية سلوكاً حضارياً رفيعاً يتسق مع التعاليم الدينية السماوية، وهي:
“واشكروا لله”.. وفيها دعوة للعودة للمصدر دوماً، وتذكر أصل النعمة وشكره عز وجل قولاً وفعلاً..
“ولا تطغوا فيه”.. وفيها دعوة لتعريف النعمة بمعناها الصحيح الذي جاءت له لا بمعاني اختلقها البشر..
“ولا تتبعوا خطوات الشيطان”.. وفيها دعوة للابتعاد عما يمكن أن يفسدها ويحرفها عن غايتها من خطوات الشيطان، بما يحولها إلى لذة وشهوة خاوية، فقول الإمام علي (ع): “كثرة الأكل تميت القلب، كما تميت كثرة الماء الزرع” مصداق على أنّ الطمع والزيادة من الشيطان، فهي تميت القلب الذي يُراد له أن يكون دوماً حياً نابضاً بالحبّ والخير والسلام.
“ولا تسرفوا”.. وفيها دعوة لاستخدامها بوعي ورشد، دون إسراف وتبذير على النفس أو على الجمع، فكل إسراف سيكون حتماً على حساب النفس أو على حساب الآخر المحتاج، كما قول الرسول (ص): “الجماعة بركة، وطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة” على عكس الإعلانات التجارية التي تدعو للتفرّد بالطعام وعدم المشاركة فيه.
“واتقوا الله”.. وفيها دعوة لتكون تقوى الله عز وجل ماثلةً في قبالة النعمة، بأن نفعل ما دعانا إليه ونكفّ عما نهانا عنه.
دعوات أريد لها أن تكون هي المرشد والموجه والمهذّب لشهواتنا وغرائزنا، ولكن عندما فقدنا الاستماع والإنصات لكلمة الله فيها، جاء من يملأ مكانها بكلمات صارت تنشر في الإعلام وترى وتسمع في كل مكان كبرمجيات تحشى بها أذهاننا، لتفرض علينا مفهوما مشوّها للطعام، ولتربطه قسرا بالسعادة والمتعة واللذة، بهدف تهييج الشهوة الغرائزية البحتة من غير أي ضابط عقلي أو روحي:
وفي شهر الصيام عن الأكل والشرب، نرى مئات من النماذج التي تميل بالصائم ليبطش ويسرف ويتعامل بهمجية مع الأكل بمجرد أن يفطر، فلنقف وقفة وعي في هذا الشهر الكريم الذي دعينا فيه للصيام للتخلي عن هذه الارتباطات الجسدية المادية الزائفة، وإعادة الإنعاش للقلب ليعود حياً باحثا عما يسلمه ويسمو به، ولنتدبر في خير الوصايا ولنتخذها كبرمجيات بديلة نصلح بها أحوالنا، ولنجتهد لترك ما أراد الآخرون أن يحشوا به أذهاننا ولاوعينا، وبذلك نحكّم “كلمة الله” دائماً في شؤون حياتنا، ونجعلها هي العليا، ونتبرأ مما سواها فهي كلمات سفلى لا يرجى منها نفع ولا خير.
كلوا (واشكروا لله.. ولا تطغوا فيه.. ولا تتبعوا خطوات الشيطان.. ولا تسرفوا.. واتقوا الله..)