كل المؤثرات تدفع في اتجاه حدوث التغيير في عالمنا العربي، وكلها تشير إلى أن هذا التسونامي لن يتوقف، فالتيار الذي يتمكن من جرف نظام متصلب كنظام مبارك، ويجرف نظاما مهيمنا كنظام القذافي ؛ على رغم كل الظروف الاجتماعية والجغرافية غير المؤاتية حيث البلاد شاسعة جرداء قليلة السكان صعبة التواصل، هذا التسونامي لن يعجز عن إحداث التغيير في الأنظمة العربية الأخرى، طوعا أو كرها.
هناك أنظمة ستتغير كرها بفعل ثورات قادمة بانت معالمها، ولكن حتى الأنظمة التي لا توجد فيها فرصة للتغير بسبب الحالة الاجتماعية والمعيشية كدولة قطر مثلا، فإنها ستندفع تلقائيا وبإرادة رسمية نحو التغيير، وأما الأنظمة التي قد تتمكن من قمع شعوبها بالقبضة الأمنية دون أن تجد من يقصفها بالطائرات كما فعل بالقذافي لسبب أو لآخر، فهي الأخرى ستجد نفسها مضطرة للتغيير خاصة في بلاد صغيرة كالبحرين.
التغيرات في البلاد الكبيرة تخلق ظروفا عربية ضاغطة نحو التغيير بالنسبة للبلاد الصغيرة، فبلادنا وسائر دول الخليج ستضطر للتغيير بسبب الضغط العربي فيما لو لم تتغير بثورات شعبية، بما فيها العربية السعودية، قد يأخذ هذا وقتا أكثر من بقية الدول، ولكنه تغيير حتمي الحدوث مع نجاح التغيير في بقية الدول العربية الكبرى، وأما لو نجح التغيير في العربية السعودية فلن يكون بالإمكان تأخيره في بقية دول مجلس التعاون.
من الأفضل لبلادنا (حكومة وشعبا) أن توسع نظرتها وهي تعالج الانتفاضة الحالية، فتصعد إلى مرتفع وتنظر إلى مجمل المنطقة العربية كيف تتفجر فيها البراكين وكيف تضطرم نيران ما لم يتفجر منها تحت القاع، فليس من الحصافة أن نقتل الناس اليوم ونمزقهم طوائف بإيقاد الأحقاد بينهم، على ما سنكون مضطرين إلى إعطائهم إياه غدا، فمن الحكمة حينما يواجه الإنسان تيارا جارفا، لن يقدر على مواجهته بحال من الأحوال، أن يركب التيار طلبا للسلامة حتى لو كان كارها، فمادام التغيير قادما لا محالة فليكن بأيدينا ومشيئتنا، حفاظا على كرامتنا على الأقل، وأما إن كنّا نظن أن الأمور هذه المرة هي كسابقاتها، أو أننا لسنا كغيرنا، فمن المؤكد أننا قرأنا الظرف قراءة خاطئة.
بعد اتضاح معالم التغيير العربي والذي ستكون أول ملامحه الرئيسية غياب حكم الفرد الواحد والحزب الواحد، وبالتالي استحالة رهن البلاد لإرادة فرد أو حزب، الأمر الذي سيحرر البلاد العربية حتما من الارتهان للأجنبي والخضوع لضغوطه وإغراءاته، وهما العاملان الفاعلان في سياسة الدول العربية، والراسمان لمختلف ملامح السياسات الخارجية والعلاقات العربية الدولية، قد لا تتضح هذه الناحية مبكرا ولكنها ستتضح مع تبلور طبيعة الثورات العربية وأنها شعبية عامة لا تتبع أيدلوجية ما، لا دينية ولا غيرها، وليست بفعل حزب ما، ولا انقلاب عسكري، وإنما سيكون الحكم بوتقة تتفاعل فيها مختلف القوى وتتجاذب، فحكم كهذا لا يمكن شراؤه، ويصعب لمتسلق أن يخادعه، فالنظم القادمة لن تكون أنظمة فردية، وهذا هو أكبر ضمان لعدم تبعيتها.
ومع هذه الحالة ستتغير قواعد اللعبة في الجامعة العربية نظرا لتغير اللاعبين، وستتجه الجامعة بطبيعة الحال لفرض شروط مختلفة عن حالة التعظيم والاحترام لاستقلالية الحكومات بإدارة شئونها الداخلية مهما كانت مستبدة، فإذا ما سقط حكم الأفراد سقطت مناهجهم وأولوياتهم، وحينها فمن الطبيعي أن تتخذ الاتجاه الآخر المشابه لاتجاه الاتحاد الأوروبي، الذي يشترط معايير سياسية وحقوقية واقتصادية، ومعايير لمكافحة الفساد والاستبداد والشفافية، الأمر الذي سيلزم الدول بإحداث تغييرات مهمة، هي نفسها ما يطالب بها الثوار اليوم وترفضها الحكومات، ولهذا نقول إن التغيير قادم لا محالة، خاصة بالنسبة للدول الصغيرة المحتاجة للدخول في كنف الجامعة ابتغاء للحماية من أعدائها المخيفين.
نحن اليوم في أول مخاض الحدث العظيم، فمن الطبيعي أن ننشغل بحيثياته الحاضرة عن تلمس نتائجه المتوقعة مستقبلا، ولكن الأمور لا يمكن أن تخرج عن طبيعة السنن التاريخية ، فالثورات لا تغير الأنظمة السياسية فقط، بل تغير إذا ما نجحت الكثير من الأفكار والثقافات والأولويات والنواحي الجمالية والذوق العام للمجتمعات، بل بعض التغييرات تحدث حتى مع إخفاق الثورات الشعبية، وحتما سيتغير الكثير مما نحن عليه الآن، فقد لا يكون بإمكان أحد بعد وقت قصير أن ينادي بالاعتراف بإسرائيل دون أن يجد حشودا من الجماهير تنادي بسقوطه وإبعاده، وقد تعود الأزمة الأخلاقية والوطنية لكل الدول التي تحتفظ بقواعد أجنبية على ترابها، وسيكون من الصعب الاستمرار في عملية التمييز بين المواطنين لسبب أو لآخر، ولن تتمكن بعض الدول من صناعة محاور خاصة بها ضمن الكيان العربي تخرج عن الإطار العربي العام، لأن القيادة لن تكون فردية أو حزبية كما سبق وذكرنا، الأمور ستتغير حتما، ومن يخفق في قراءة معالم هذا التغيير سيكون خاسرا، ومن يراهن اليوم على الأحصنة القديمة سيخسر الرهان حتما.