(الأحسن) هو منشود الجميع في كل ما يتعلق بحياتهم، ابتداء بمقتنياتهم الشخصية كالبيت والسيارة واللباس والموبايل، وانتهاء بطعامهم وشرابهم وأماكن سفرهم ونزههم..الخ، الكل يبحث عن أحسن هذه الأشياء وأغلبهم معياره في ذلك حواسه الخمس، حتى اختيار الزوجة أصبح اليوم يخضع للمعايير الحسية أكثر من غيرها لدى قطاع كبير من الشباب، وطالما الأمر كذلك فإن الناس قد تختلف قليلاً أو كثيراً في تحديد الأحسن منها تبعا لاختلاف معاييرهم في الذوق المادي لهذه الأشياء، ولكن ماذا عن أحسن الأعمال التي لا تخضع في تقييمها لحواس، هل تشغل بال أكثرنا؟ وهل ثمة معيار لدينا يحدّد الأحسن من الأعمال؟ أم أنه نسبي أيضاً وخاضع للمعايير الشخصية، فما هو حسن عند خص قد يكون سيئاً عند آخر؟ إذنْ فقد فقدنا المعايير الصحيحة التي نقيس بها الأمور! وأعتقد أن فقدان هذه المعايير هو أحد أسباب أزمتنا الحالية،مع أن مفهوم الـ”أحسن” يُفترض فيه أن يكون واضحاً بدليل استخدام القرآن الكريم لهذا الوصف كثيراً والدعوة إلى تمثّله في حياتنا اليومية لى أصعدة مختلفة ومع أطراف شتى كقوله تعالى:

(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)(الأنعام:152)

(وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل:125)

(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(الإسراء:53)

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)(المؤمنون:96)

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(الزمر:55)

استوقفتني كثيراً هذه الآيات فهي تطالب بأحسن السلوكيات وأحسن الأعمال في العديد من تصرفاتنا اليومية، وكلها أوامر أو نواهٍ ينبغي الالتزام بها، فكيف السبيل إلى ذلك دون معرفة الأحسن في كلٍ منها؟ وهل هو واحد في جميعها أم أنّ لكل جانبٍ أحسنه، وما هو المشترك بينها؟

أعتقد أن الجواب نجده في الآية الكريمة: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18)،فمعيار الأحسن يحدّده الهدى الإلهي (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)، والعقل الإنساني (وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)، فهما متوافقان دائما ولا يتعارضان أبدا. فالعقل السليم يدرك الحسن والقبح لأنهما ذاتيان وهو مبرمج على معرفة ذلك، وليس الحسن والقبح شرعيين بحيث أنّ ما حسّنه الشرع فهو يمتلك تلك الصفة لأنها أُضيفت إليه من قبل الشرع ولولا ذلك لما كان حسناً بل لو قبّحه لصار قبيحاً فلو قبّح الصدق لأصبح قبيحاً! لا ليس الأمر كذلك فإن الشرع والعقل لا يتناقضان، نعم قد يشتبه الأمر علينا في مسألة ما فإنّما نتيجة فهم قاصرٍ أو خاطئ يحول دون إدراك الحقيقة.

لا شك أن العلوم الربانية وما جاءت به الرسل والأنبياء أوسع وأعمق مما لدى الإنسان، والدليل على ذلك ما يزال قائما لمن عرف القرآن وتدبر آياته، فقد يغيب عن عقل الإنسان معرفة الأحسن في بعض مواقفه المصيرية ولذلك وُعد منذ البداية بالهدى لإرشاده (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)(طـه:123)، ومع نزول خاتمة الرسالات السماوية لم يبق إلا العقل وسيلة لتفعيل تلك الرسالة، يصف أحد
العارفين القرآن بأنه (رسائل من ربنا نتدبّره بالليل، وننفذّه بالنهار).

فالحُسن العقلي هو مرتبة من الحسن القرآني، ولاختلاف مستويات عقول الناس يكون التكليف بعمل الأحسن على المستوى الفردي خاضعا لمستوى عقل الفرد نفسه (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة:286)، وأما على مستوى التكليف الجماعي فيكون خاضعا لمستوى عقول الجماعة، وهنا تظهر الحاجة الملحة لتحديد الآلية الصحيحة التي بها يمكن جمع الآراء وحل إشكالاتها للوصول إلى أحسن نتائج التفكير الجماعي ومن ضمنها نتائج الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع محل النظر، ثم إن لكل موضوع أحسنه سواء أكان في الأخلاق أم السياسة أم الاقتصاد أم الاجتماع، وقد يتطور الحسنُ إلى أحسن منه مع زيادة وعي الإنسان وعلمه ولذلك جاء التكليف بعمل الأحسن مفتوحاً على احتمالات التطوير والتحسين مع مرور الزمن، فالتطور المعرفي المتراكم يفتح آفاقا جديدة للتعامل مع مال اليتيم بطريقة أفضل من مجرد المحافظة عليه من التلف من قبل وليّه الفرد، أو الأخذ منه بقدر الحاجة الملحة فقط عند الاضطرار، إلى إنشاء المؤسسة التي تعنى بمال اليتيم وبإنمائه وتكثيره واستثماره ضمن مشاريع تعود على اليتيم والمجتمع بالفائدة.

إنّ تفعيل دور العقل -بعيداً عن أهواء النفس ورغباتها- في البحث عن الأحسن دائما، كفيلٌ بالتوصّل إلى أنجح الطرق لحل مشاكلنا المتراكمة، فكثيرة هي القضايا المطروحة السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية وهي بحاجة إلى مناقشة عاقلة تصبّ محصلتها النهائية في خدمة الوطن والمواطن بعيدا عن التوظيف السياسي أو الفئوي أو الطائفي أو الشخصي للملفات الساخنة، وذلك بتوخي أحسن السبل للمعارضة، ولإدارة الجمعيات، ولإقامة التحالفات، وللتعامل مع الخصوم أو الآخر المختلف، أحسنها لخدمة المؤسسات والوطن ولتحسين أحوال الناس وحل مشكلة الفقر والبطالة والأحوال الشخصية، أحسنها للدعوة إلى الدين وتبليغ الهدى، أحسنها إعلاميا وسياحيا ونيابيا..الخ، طبعا من حق الناس أن تختلف في نظرتها لتلك المشاكل وطرق حلها ولكن ليس من حق أحد أن يستعمل قوة عضله بدل عقله لفرض الحل على الآخرين وإلا أصبحنا كائنات أخرى غير هذا الإنسان! وإنما المطلوب البحث من بين تلك الحلول عن أحسنها بالدليل والبرهان.

لقد خلق الله سبحانه الإنسان في أحسن تقويم، وأُريد له بهذا أن يكون الأحسن عملا في جميع مناحي الحياة ليعكس أثر السماء على الأرض (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7) فالهدف من وجوده هو بلوغ الأحسن.

(اللهم صل على محمد وآله وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيّات وبعملي إلى أحسن الأعمال).

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة