قبيل أن تضع الحرب العدوانية الصهيونية أوزارها على لبنان كنت عند الكعبة المشرفة، دخلت بيت الله الحرام وأنا على يقين أنّ كثيرا من الطائفين لا يهمّهم الدعوات لأنفسهم ولا سلسلة المطالب الشخصية كما تعوّدوا عليها في كل تطواف حول البيت وفي كل مواقع استجابة الدعاء إذ الحدث الأبرز حياة أو موت الأمة، ما كان هذا يقيني لأني كنت متفائلا فوق الحدّ، إلا أنّ واقع الحال دفعني أن أرصد وأسجل بقلم مشاعري ما أراه وأسمعه، فقد باتت المشاعر تكتب متلهفة على صفحات القلب حتى وإن كنت غير قاصد لذلك، يغلب على المعتمرين الصورة الجماعية في الدعاء.
كنت أسمع أدعية مجموعات مجموعات إيرانية فلا أعتني بها كثيرا مع أنهم يملكون أنغاما حزينة رقيقة تأخذ بلباب حتى القلوب القاسية، حاولت بالفعل ألا أستمع إلى أدعية الإيرانيين وكنت أجاري من يدّعي أنه تحصيل حاصل، أو من يقول: شيعة يبذلون الغالي والرخيص إلى مذهبهم وعن مرجعياتهم. ومهما تضرعوا ودعوا بإخلاص حتى ينصر الله المقاومة في لبنان و فلسطين فإن الإعلام ودوائره الشرقية والغربية تُجمع أن دعاءهم هذا إنما هو لبلوغ مصالحهم وإثبات هويتهم وللقضاء على عدوهم عدو الثورة الإسلامية القديم، وهو استمرار لمقولة مؤسس الثورة الإمام الخميني (أنّ إسرائيل غدة سرطانية يجب أن تزول) وأنها حرب مع الشيطان الأكبر أمريكا، وأن المقاومة في لبنان ومهما بلغت من العنفوان والبسالة إنما تحارب نيابة عن إيران حتى وإن كان على حساب تدمير لبنان، يا له من وصف جائر!! وكأنّ فاقد الإرادة، التابع الطيّع الأعمى بقادر على أن يقف وقفة الطود الشامخ، حتى بعض السياسيين من لبنان وتابعهم غيرهم ينعتون رجال المقاومة بهذه النعوت القذرة، فلم الإصرار على وصم مقاومة لبنان يا تُرى؟ إنها بكل بساطة من أجل الحفاظ على هيبة (الجيش الذي لا يُقهر) فكان من الضروري أن تتدخل القوى السياسية والإعلامية المدافعة عن وجود إسرائيل لتصوير قوة حزب الله أنه الأضعف في المعادلة وبالتالي لابدّ من إدخاله ضمن قيادة وتصرف وعتاد وتعبئة جيشي دولتين (سوريا وإيران) عسى أن تصح المعادلة ويتكافأ الطرفان المتقاتلان!
تُدرك أمريكا وإسرائيل أنّ من العار أن يوثق التاريخ هزيمة جيش إسرائيل المدعومة بلا حدود من صانعة الفتن ومقوضة السلام العالمي أمريكا وقطعانها الأوربيين، بل من العار والشنار أن يُسجّل التاريخ للأجيال مواجهة جيش إسرائيل مع حزب ضمن دولة فضلا عن الهزيمة والهروب والإذعان للشرعية الدولية التي طالما ديست من قبلها أو عُطلت بقرار (فيتو ظالم)، ويُضاف إلى العامل الأوّل ما أثبتت الأيام أنّ أحزابًا ودولا لا تستطيع أن تصنع ما صنعته المقاومة، أو بالأحرى لا تملك إرادة ما ملكته المقاومة، فليس من طريق إلا التقليل من شأن المقاومة!
كيف غابت ولا تزال تغيب الحقيقة عن أناس يستعظمون على رجالات المقاومة أن تسطر هذه الملاحم بإرادات حرة وسواعد أقوى من الفولاذ وصبر غطى على كل صبر، وإيمان ضاهى أعظم إيمان، يستعظمون عليها أن تدير هي المعركة بقيادة حكيمة تتواجد مع شبانها الأشاوس، وحكمتها أن تصنع ما تقدر عليه وأن تتحالف بكل وفاء مع من تشاء من جسم الأمة لا من خارجها دون حاجة إلى إملاءات وشروط مذلّة، تأمّلوا في أبناء المقاومة! هل ترونهم عبيدًا لأحد؟ أم أنّهم تحرّروا من عبودية الأهواء والشياطين فكانوا أحرارًا لا يتملّكهم غير الواحد الأحد، حدّدوا عدوّهم الأوّل والأخير فغدت رؤيتهم أسطع من الشمس فلا يميلون عن أهدافهم وإن راهن كلّ أعدائهم في إدخالهم في الفتن مع أبناء الأمة.
لم يضعوا في رؤيتهم ولا في أجندنهم تحطيم فصيل من الفصائل ولا تهوين مذهب، فليست معركتهم مصوّبة إلى الداخل، كلّ سهامهم مفوّقة نحو عدوّهم الأول والأخير الصهاينة المعتدين الغاصبين للأوطان العربية، وطنيون تعالوا وارتفعوا على الطائفية ودهاليزها الضيقة، عاشوا مع المستضعفين الكادحين من أبناء الأمة فعشقوا برامجهم وسلوكهم وخبروا وفاءهم وإخلاصهم، لا يتلهفّون على استلام الكراسي واعتلاء المناصب. ترفّعوا على الدنيا وعشقوا لقاء الله تعالى فخدمتهم الدنيا وأكبرتهم، إخوانا صادقين في أخوتهم، كلّ حبة من تراب وطنهم أغلى عندهم من عقود اللئالئ وأساور الذهب بل أغلى من أرواحهم، ولهذا فهم استرخصوها وتزينوا بقلائد الشهادة في سبيل عزة أوطانهم وكرامتهم، هان عليهم كلّ ما يملكون حتى شيوخهم وعجائزهم وأطفالهم وأضحوا يتحدون وحشية الصهاينة وبقوا صامدين موحدين أشدّاء عند منازلة عدّوهم ما داموا يرون وطنهم مستباحا وأهله ونساءه وأطفاله تحت الأنقاض بلا ذنب!؟
هذه المعاني كنت أتأملها في رجال المقاومة وأنا أمام بيت الله وأستمدّها من روح دعوات وتضرعات المسلمين المصريين والأتراك وغيرهم، كنت أستوقف بالفعل وأنشدّ كثيرا عند دعوات وتضرعات المسلمين، بل أراهن على هؤلاء، إنّهم يعجّون بالدعاء لنصر الأمة على عدوها، توحّدوا مع المقاومة في تشخيص عدوّ واحد للأمة، ونسوا همومهم الشخصية (والجرح يسكنه الذي هو آلم) دعوات من المأثور ودعوات تنشئها قلوبهم الدامية بأن يفرّق الله شمل العدوّ ويرُدّ كيدهم في نحورهم ويفرقهم تفريقا، وأن يُرجع كلّ أرض مغتصبة إلى أهلها، أرى دموعهم تنهمر للإلحاح على الله باستجابة دعواتهم، كنت أسمع همسا أحيانا خوفا من المؤاخذات أن يطيل عمر سيد المقاومة السيد حسن نصر الله وينصره النصر المؤزر على أعداء الأمة (أمريكا وربيبتها إسرائيل)، كنت أقرأ في عيون الداعين حسرتهم على النكبات والهزائم التي لاقوها من (الجيش الذي لا يُقهر) واليوم قلوبهم تفصح عن عودة الأمل والروح بقوة الذات واليقين في نصر العروبة والإسلام.
أحببت تكرار الطواف كلما دخلت بيت الله الحرام ليزداد يقيني في حبّ الناس لأمّتهم، ولتسجيلها ظاهرة لا كسحابة صيف، ولا عجب فالعواصف والرعود تتكشف عنها معادن الأمة، والفراغ والأمان والرخاء تسرع بانحدارها وضياع هويتها. وربّما الخير في باطن الشر(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). ما سمعت من الدعاء أثلج صدري فليس مكانا هناك للعصبية الطائفية، بل الجميع اعتنى بالقضية الأمّ، لا وجود هناك لقضية شيعية وقضية سنية ورجال لهذه وأخرى لتلك، الهمّ موحد : أن ينتصر العرب والمسلمون، وأن تُهزم إسرائيل ومن يقف وراءها.
حين بلغ انشراح صدري درجاته العالية تأمّلت فيما حصل وقلت: لقد حضرت بعض مؤتمرات التقريب بين المسلمين، وما كنت ألمس صدق المشاعر ولا كبير أثر على المنتدين والحاضرين وكأنها (كبسولات) علاج انتهى وقتها، وليس من استمرار ومتابعة للعلاج، فسرعان ما تُثار قضية مذهبية وتعود الجدران السميكة فاصلة بين المذاهب وتتأصّل العصبيات من جديد، تبني لها مكانا تتربع فيه وترتاح للاستقرار عنده، أما قضية هذه الحرب الصهيونية العدوانية على لبنان وفلسطين فقد سقت ثمار الخير في الأمة، وغيّرت بعض مراهنات المتعصبين والمقتاتين على الدوام من موائد العصبية المذهبية، بل لابدّ وأن تداعياتها تتبناها أصحاب الضمائر الحرة، ومحبو السلام الحقيقي في العالم، فإن تحققت أكثر هذه الثمرات فهو نصر للمقاومة، ونصر للأمة، ونصر للشارع العربي، وهزيمة للكيان الصهيوني الغاصب، ولطمة سياسية لتجار (الشرق الأوسط الجديد)..