أذان الصلاة وسط قاعة امتحان

كنت أنا ضمن مجموعة في قاعة امتحان، وكأنّ على رؤوسنا الطير، الجميع مهموم يريد النجاح ومنافسة أقرانه، فالكعكة صغيرة وطلابها كُثر، والفترة الزمنية للامتحان قصيرة قياسا لكثرة الأسئلة وصعوبتها، كنّا بالفعل نسابق الزمن، وإذا بنا نسمع أذان الصلاة يُرفع وسط القاعة، جفت الأقلام وانقطع حبل الأفكار، وتوجه الكلّ للزميل المؤذن يستنكر عليه فعله سرا وإعلانا.

البعض اكتفى بالحوقلة كأبسط ردة فعل مرتقبة، والبعض توفز للقيام يريد أن يقطع عليه الأذان لكنه خشي أن يُتهم بمعاداة الدين فكظم غيظه وحاول التأقلم مع الامتحان بعد لأي ولأي، وآخر قال: هل هذا الشيخ المؤذن بقادر على أن يُجبر زوجته وأولاده على الصلوات في بداية أوقاتها وفي كلّ الحالات؟ ولكم أن تتوقعوا ما حدث وسط القاعة، وهكذا لو أجرينا استبيانا في ذلك الوقت وفي مناخ الأزمة الذي عشناها لما خرجت النتيجة عن حاجتنا إلى التعامل الواقعي مع أحكام التشريع دونما عسر وحرج، فمهما كان المرء قويا على إكراه نفسه لكنه لا يمكن أن يُجبر الآخرين بما يلتزم به هو، وكما يقول الفقهاء: “التقوى غير الفتوى”.

فالفقيه قد يُنزّه نفسه ويتورع عن أمور معينة لكنه ليس له أن يفتي الآخرين إلا بالتنزه عن الحرام في الواقع واجتنابه، لا ما حرّمه على نفسه، وقد قيل: “حسنات الأبرار سيئات المقربين”، فالإيمان درجات ورتب، ولا يصحّ أن يقول أصحاب الرتب الإيمانية العالية(المقربين) لمن هم دونهم: “لستم على شئ” وإن كانوا يعدّون ما يؤديه الآخرون الأقل رتبة من أعمال حسنة في حقهم أعمالا لا تليق بشأنهم، فهم يطالبون أنفسهم بحسب معرفتهم بالله ودرجات قربهم.

حدث هذا التصرف وسط جماعة تختلف أيديولوجياتهم، فمنهم المحافظ المتدين، ومنهم غير ذلك، فليس من المستغرب أن يتكرر هذا التشدد في منتديات ومؤتمرات دينية بحتة كما يحدث بالفعل، و”النوتة الجديدة” الآن هي أن تسمع الأذان شئت أم أبيت عبر “رنات الهاتف المحمول” وكأن الصلوات الخمس ليس لها وقت متسع بين بداية الوقت وآخره، وبتعبير آخر كأنها ليس لها إلا حدّ واحد وليست حدودية.

ولا يعني هذا التوقف والنقد أنّ أحدا يماري في أنّ الله يضاعف محبته للعبد إذا تشوق مندفعا وسارع للقاء ربه عبر صلاته، لكن الله سبحانه يحب أن تُؤتى رخصه كما تُؤتى عزائمه، فإذا كان من طبيعة الدعاة والمبلّغين دعوة الناس وحثهم على الصلاة في بداية وقتها، وكأن أول الوقت عزيمة وواجب لا يمكن التقصير فيه بحسب اعتيادهم؛ فإنّ الله سبحانه رخّص وسمح للعبد أن يؤدي صلاته في الوقت المتسع لها ولا ضير فيها خصوصا مع الانشغال الطبيعي وتقلب النفس بين حالات الإقبال والإدبار، وشتّان بين شخصين: شخص يٌقبل على الله من تلقاء نفسه، مخلصا لله حاضرا في صلاته، منسجما في حياته، لا تدعه صلاته فعل المنكرات والمعاصي، ولا تسمح له بالتواني عن أداء حق الله وحقوق الناس ونفعهم، وآخر يصطّف في الصلاة في أوائل أوقاتها بدفع وحض من أحد، دون الإرادة الذاتية، فشتاّن بين تفاعل هذا وذاك وإن اشتركا معا في صورة شكلية واحدة. فالدعاة والمبلّغون وإن كانوا يُنجزون نجاحات كبيرة في تحشيد الكثير للصلاة جماعة في المساجد إلا أنّ نجاحاتهم لا تكمل إلا حينما يزرعون حبّ الله في القلوب، وحينما تتحول العبادة من قوالب تستثقلها النفوس إلى وعي بهذه العبادة وأثارها المادية والروحية في تمتين العلاقة مع الله، باعتبار هذه العبادات هي إيذان من الله ومفاتيح الحجب للقاء به، ولا تتأتى هذه الدعوة الفكرية والترسخ الروحاني إلا وفق أساليب عديدة من تراكم خبرات الدعاة ودلالتهم عليه وربطهم به تعالى، وهي لاشكّ تتسع كلّ حياتنا ونحن لا نزال نتعلم بعدُ من خلال المزيد من الإخفاقات والنجاحات.

لنستمع إلى حبيبنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يوصي مبعوثيه إلى اليمن معاذ بن جبل وأبي موسى بهذا الخُلق((يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا)) وما هذه الوصية إلا لحاجة الناس إلى التيسير والرفق وتحبيبهم إلى الإيمان، والخشية من التعسير والحكم فيهم بالعنت بإسم الدين. وأيضا هو القائل: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم”. لقد حذّر النبي من الإفراط والمغالاة والتشدد في أساس فهم الحكم الشرعي وفي تبليغه والتعامل معه موصيا الأمة: (إياكم والغلو فإنما أهلَكَ من كان قبلكم الغلو)، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ” قِيلَ لِرَسُول الله أَيُّ الأدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: “الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ ” فاليسر مبدأ قرره الله تعالى في محكم آياته:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.

إنّ من أهم أسباب الغلو والتطرف هو اعتقاد كلّ مذهب أو دين أنّ عقيدته هي المقدسة والناجية دون غيرها، وأنّ على الآخرين احترامها والإيمان بها ما دامت تملك منطقية أدلتها في نظره، وكلما زاد رصيدها بسبب اعتقاد تأييد السماء لها وتنامي أتباعها ترسخ الإيمان بوجوب تلهف القلوب بها وتغلغلها في النفوس، وعدم توقع رفضها أو الاستهزاء بها، ومن هنا يغدو التشدد والتطرف نهجا عند بعض أتباع المذاهب والأديان، ويمارس الكبار الاستبداد الديني مع الأتباع بالذات ومع الآخرين، وينبَِذون الآخر المخالف، ويكفَّرون من شاءوا ويبدّعونهم، وتخرِج فتاوى سفك الدماء بإسم الحقّ، في الوقت الذي جُعل للناس الخيار في اختيار عقيدتها إن شاءت أن تؤمن بهذه أو تلك، فالحرية ينبغي أن تتاح لكل إنسان، وله أن يسمع ويحاور أيا شاء وهو يقرر إيمانه بقناعته لقوله تعالى:(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة