لما شعر المنصور العباسي بدنو أجله أراد أن يمهد لابنه المهدي ويحبب فيه قلوب الناس، فشنّ على ذوي الثروة و أصحاب الضيع والأملاك والنفائس حملة سلب ونهب ومصادرة ، وأمر بأن يحفظ كل مال أو أرض أو ضيعة في سجل يبين اسم صاحبها، ثم أوصى ابنه المهدي أن يقوم بإعادتها إلى أصحابها أول أيام خلافته، ذلك لتنعطف له القلوب وتنشرح بعهده الصدور فيحبه الناس وتسلس له الأمور.
المكر تقنية من تقنيات الناس وطبع من طباع بعضهم، ولكنه في السياسة منهج متبع، يتواصون به كابر عن كابر، لما قد يحققه من نصر بلا كلفة ، ولا عجب فالسياسة عند أهلها حرب باردة أو ساخنة، لاكتساب صديق أو إهلاك عدو، وتفريق جمع وجمع شمل، وتحييد قوم واستنصار آخرين، كان هذا دأب السياسة منذ أن كان للناس حكم وسلطان، ومنذ أن ابتغت نفوسهم منازل الربوبية.
كل التاريخ يكشف عن استمرار المكر والخداع والتآمر في السياسة، وأنهم به يعقدون حلفا ليس في نيتهم الوفاء به، ويقطعون عهدا ويبيتون نكثه، ويعلنون أمرا ويسرون نقيضه، ويبدون ظاهرا ومرادهم مخفيه، ويوعدون ومرادهم الوعد، ويعدون ومرادهم الوعيد، ويهادنون ومرادهم التربص، ويصلون وغايتهم القطيعة، ويعطون ومطلبهم الأخذ، ويسالمون تهيّأ للحرب.
المؤامرة دم السياسة ينبض به فؤادها ، وقد صلفت وجوههم فيها بإراقة ماء الحياء، وقست قلوبهم بإخماد الضمير، فهم لا يخجلون من إعلان فرحهم بالنصر حين انكشاف الغدرة وانجلاء الفجرة، بل يتباهون بالشطارة ويفخرون بالعيارة، معتمدين على مقولة فاجرة: السياسة مكر ودهاء دينها المصالح، مزينين بأنهم بهذا إنما أرادوا خدمة الوطن ومصلحة الأمّة وحفظ الأمن وقطع الشر، هكذا عرفت بواطن السياسة منذ أن كانت بين الناس، وهكذا نظّر لها الكتاب وعمل بها الساسة.
ولفرط اشتهار السياسة بالمكر، مكروا بشهرتها هذه فوظفوها في تبرئة أنفسهم من تبعات أعمالهم، فعزوا كل مفسدة وكل قيامة ضدهم، أو معارضة لهم، لجذور خارجية متآمرة على الوطن، ولا يعنون بالوطن سوى ذواتهم المصونة، فمهما تكن من قيامة في الناس تريد الإصلاح أو تريد المنازعة في السلطان محقة أو مبطلة، فهي مؤامرة خارجية أو مسنودة من الخارج، و أكثروا من الهرج بمثل هذه المقالة حتى مجّتها العقول وانصرفت عنها الأنفس، فوجد الساسة الدوليون الراسمون لخطط المكر، أن ّ الفرصة قد حانت والظروف قد سنحت لتغييب وعي الجمهور عن نظرية المؤامرة، وستر معاملها عن أعين الراصدين بمسطحات خضراء تعجب الناظرين، فانبرى الإعلام في غفلة من الناس في هبة لا يُعلم ماتحها و مايحها ولا سائقها وحاديها، تكرر على أسماع الناس كل حين وكل موقف وبكل وسيلة الاستهجان بنظرية المؤامرة.
وسرى في الناس مكرهم، فراح كل قاصد مدفوع مستأجر لهذه الغاية ، يكرر ويكرر الاستهجان، وتبعه كل غافل مشرّد الوعي يكرر معهم مقولتهم، ثم صارت أيقونة من أيقونات الوعي عند الناس، فكل من يرفض نظرية المؤامرة فهو ذكي فاهم واع، قد اكتشف مهزلة التوظيف لها ضد المعارضين، وكل من لا يزال يقول بها فهو إما تبع لهم وبوقا من أبواقهم أو هو ساذج مضحوك عليه ممكور به، وهكذا حتى سار في الزفة بالزغاريد كل البهاليل، فأخرس تهليلهم كل متردد مرتاب.
أيها الناس بشراكم اليوم، فقد تاب الساسة عن المكر، ونفضوا أيديهم من الخديعة، وكفّوا عن التخطيط القصير والطويل، وزهدت أنفسهم فيما تحت أيدي الناس! كيف؟ أليس العالم المتقدم يبني عمله ومستقبله على الخطط قصيرة المدى وطويلته؟ ما الفرق بين التخطيط والتآمر؟ شعرة دقيقة، فحينما تخطط لنفسك ووفق ما عندك من فرص وما يهددك من مخاطر فأنت تخطط، ولكنك حينما تبحث عما عند غيرك من نعيم أو ما هو فيه جحيم، وما تحت أرضه من ثروات يعلمها ولا يعلمها، ومواضع القوة والضعف في مجتمعه، وفرص الانقسام والالتحام بين مواطنيه، وما سبق لهم من تاريخ وما يحيط بهم من عدو وصديق، ثم تخطط لنفسك كيف تستثمر كل ذلك بما يجلب المنفعة والمصلحة لك وبأقل الخسائر عليك وأقل المنافع لغيرك، فما ينتج عن ذلك من خطط عمل هي التآمر بعينه، فمن من الدول المقتدرة القوية لا يفعل ذلك؟
لماذا يطالب العالم بالشفافية؟ أليس لأنّ أكثر أمور السياسة تتم في الخفاء؟ ليس كتمانا لسر، بل لأن المستور قبيح ومخالف للقانون والشرائع والأخلاق، إنه في غالبه مؤامرات بين قوم على آخرين، إما بغرض الكيد أو السرقة أو إقامة علاقات مشبوهة، فكلما سمعت زيادة في المطالبة بالشفافية فاعلم أن الناس تشعر أن الحكم يأتمر بهم وبما يملكون، وكلما كان الاجتماع حصريا وسريا بين رجال القمم لا يشهده سواهم كانت أوراق التآمر مكشوفة للنقاش والمحاصصة.
إن من السذاجة أن نسقط نظرية المؤامرة من وعينا، فأكثر الأحداث الكبيرة في العالم هي ثمرة مؤامرات، والقضية الفلسطينية هي أعظمها فينا، فهي برمتها ملعوب لا مبرر له على أرض الواقع إلا المؤامرة، فلا الفلسطينيون كانوا أعداء لليهود ولا العرب ولا المسلمون وقت قيام إسرائيل، بل كانت أوروبا هي عدوهم وظالمهم ومهينهم، فقضية فلسطين مؤامرة خالصة لم يسهم فيها العرب بسهم يبرر لليهود فعلتهم. بل لو تأملت رويدا لوجدت أن اليهود قد مكر بهم أيضا، فقد تخلص الغرب منهم ثم سخرهم رقيبا وشرطيا على قوم يخشاهم ولا يريد أن تقوم لهم قائمة، فهم من وقتها يحرسون له حماه ويتسلطون بعونه على أعداه، الذين اضطرته الظروف لإنهاء استعمار بلادهم، وهو بعد لم ينس أنهم كانوا يحكمون نصف أوربا حتى الحرب العالمية الأولى. وهذا مجرد مثال صارخ واحد من أمثلة صارخة كثيرة قام بها المستكبرون ضد الشعوب المستضعفة، وضد بعضهم البعض، فتاريخ العالم الكثير منه قائم على المؤامرات ، هذا مع علمنا أن من الضلال أن نعزوا لها كل مكروه نحن فيه، فالتحليل الاستراتيجي العلمي الرصين غير المبني على الخرص هو السبيل الأمثل باكتشاف علل الأحداث ومسبباتها فقد تكون أسبابها محلية صرفة، وقد تكون خارجية صرفة، وقد تكون مركبة من هذه وتلك.
والتآمر ليس مخصوصا بالسياسات الخارجية، بل هو في السياسات الداخلية أكثر، وأكثر من اشتهروا في تاريخنا بالدهاء لم يكن دهاؤهم ضد الأعداء الخارجيين بل ضد الخصوم المحليين، فهم أكثر تهديدا للعرش عادة من العدو الخارجي، هذا ومن قبائح أخلاقنا أننا نذكر هؤلاء الدهاة بنوع من الإعجاب، ذلك أننا لا نفرق بين الذكاء والشيطنة، بسبب عدم وعينا للفرق بينهما، وبسبب ضعف تطهرنا الأخلاقي.