ديمقراطيات من القرآن -4
قلنا في الحلقة السابقة أن الآية التي يمكن توظيفها في بيان أخلاقية الإسلاميين في دولة ديمقراطية حينما يكونون في السلطة هي قوله سبحانه:”يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين ، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله بما تعملون خبيرا” 135/4 .
لاحظ أن موضوع القوامة قد تبدّل من النوايا إلى الأفعال ، فاصبح الخطاب فيها تنفيذياً بعد أن كان إرشادياً تربوياً في الآية السابقة. أنصبة الناس من الحقوق هي موضوع القوامة الآن، وجهة الطلب هي أداء هذه الأنصبة إلى أهلها كلّ حسب حقه بالعدل والتنفيذ هنا بيد المؤمنين .
ولاحظ أيضاً أن موضوع الشهادة (الحقوق) لم يتبدّل فقد كان موضوعها حقوق الناس ولازال ولكن المقتضى في آية المعارضة أنّ هذه الشهادة تقام أمام السلطة التنفيذية وفي وجهها مطالبة بإعطاء كل ذي حقّ حقّه مهما كان موقفه مادام هو حقّه. فهي شهادة لطرف أصحاب الحقوق أمام السلطة التي تملك إعطاءها. أما الآن وقد تبدّلت المواقع وأصبح المؤمنون هم جهة التنفيذ فلم تبق جهة يشهدون أمامها. وحتى إن وجدت فقد يغريهم السلطان بأن لا جهة تستحق أن تشهد عليهم . فجاءت الآية لتلزمهم أنفسهم بأداء الشهادة لله والذي بحسب إيمانهم المفترض يؤمنون بأنه معهم أينما كانوا . فهي تطالبهم بالشهادة على كل صاحب حقّ بحقّه أمام الله وابتغاء وجهه.
وللعلم فإن هناك نوع آخر من الشهادة يؤدّيها المؤمنون “الشهداء” على الناس أمام الله معاضدين شهادة الأنبياء على أقوامهم يوم القيامة ولكن الشهادة هنا هي شهادة على النفس باستيجاب حقوق الآخرين التي في ذمتها لا بحقوقها على الآخرين، فهي هنا للمحاسبة والتحذير من التفريط في أداء أمانة الناس إليهم واستغلال المناصب للظلم والأثرة ، فتدعوهم ذاتياً للشهادة على أنفسهم ابتداراً، لأن ذلك هو مقتضى الإيمان والتقوى ، وهي حسن ظن من الله في عبده المؤمن أن إيمانه سيدفعه للشهادة بالحق قبل أن يُشهد عليه.
فالمؤمنون إذن هنا هم في السلطة التنفيذية: أداء الحقوق للناس بأيديهم، وإمكانية عدم أخذ أحدٍ بالاعتبار في شهادته عليهم موجودة، إنّها إذاً السلطة “أم الدواهي”، “كلا إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”. ولهذا تجد التحذيرات من أدواء السلطة قد تعددت في هذه الآية. فمع أن الخطاب موجه للمؤمنين إلاّ أنها حذرتهم من ثلاثة أدواء : اتباع الهوى في مقابل العدل، الالتواء في صرف الحق عن أهله، الإعراض وعدم الاكتراث بالاعتراضات. فإتباع الهوى هو مرض القلب وسيطرة النفس عليه، فالسلطة توفر لصاحبها كل ما يمكن أن يمرض القلوب من جاه ونفوذ ومال ومتع وحاشية متزلّفة. والالتواء هو الانحراف القانوني والتلاعب بصيغ القوانين وتفسيرها والالتفاف على الحق . أما الإعراض فهو عدم الاكتراث وهو الاستهتار بحقوق الناس اغتراراً بالسلطة وأعقبت الآية كل ذلك بتحذير صريح يفهمه المؤمنون “إن الله بما تعملون خبير” .
إن أول الجهات التي تميل النفس إلى حظوتها بالاستئثار حين التسلّط هي الذات ، وهي كذلك أصعب الجهات وأمنعها على النفس أن تشهد عليها، ولهذا ابتدأت بها الآية ، اشهدوا بالحق لوجه الله ولو على أنفسكم . المسؤولون التنفيذيون لا يشهدون على أنفسهم ويرون أنها اكبر من أن يشهد عليها ، بل ينكرون أي شهادة تقام عليهم . ولكن الإسلام يريد من المسؤول المؤمن أن يشهد على نفسه قبل أن يشهد عليها . ثم إذا ما قررت الآية ذلك انتقلت إلى الدوائر المقربة : الأبناء والآباء والأخوة والأقرباء ممّن عادةً يستغلون نفوذ آبائهم وأقربائهم ليستولوا على حقوق العامة، وممّن يلجأ إليهم المتسلّطون عادةً ليمارسوا نيابة عنهم عمليات الاحتيال والتنفذ في المرافق والشركات، كما هو مشاهد على طول التاريخ. وأضف إلى هؤلاء دائرة الحزب والحاشية الأقرب فالأقرب. يجب أن يكون إيمان القوّام بالله أعلى من كل هذه الارتباطات فيشهد عليها بالحق أنها ظلمت واستأثرت.
هناك معضلة في الفكر السياسي الإسلامي تواجه الإسلاميين اليوم وهي ماهية هذه الحقوق . والتي يجب تحديدها قبل الحديث عن أدائها فإنما العمل فرع العلم ، فينبغي على كل الاتجاهات الإسلامية المتنوعة أن تكاشف الناس عن ماهيّة هذه الحقوق التي تراها لها في الإسلام. فأفهام الإسلاميين اليوم متباينة تبايناً واسعاً جداً . ولأنّ القرار والاختيار هو للناس فلابدّ من المكاشفة . ولا تكفينا اليوم العبارات العمومية من أمثال : إقامة العدل والحرية والمساواة ، لأنّ الإسلام السياسي المعاصر لازال في بدايات عودته ولم تستقرّ له أصول وقواعد وأعراف لا في فهم السياسيين ولا في فهم الناس. ولا يغنينا أن نقول كما في الأناشيد إقامة القرآن ونشر الإحسان. فهذا كلام غير عملي والحاجة إلى التحديد والتفصيل ملحّة. ولئن يظلم الحكام الناس باسم الدنيا أهون على الإسلام من أن يظلموا باسم الدين. فهذا عاقبته على الإسلام وخيمة ، إذ قد يكفر الناس بصلاحية الإسلام لإدارة الحياة . ينبغي على الإسلاميين أن يوضّحوا أنفسهم ومواقفهم وآراءهم من القضايا المعاصرة : حقوق الإنسان، طبيعة الاقتصاد والإدارة ، الديمقراطية وتداول السلطة ، الحريات الأساسية ..إلخ لأن تجربتهم نجحت أو فشلت ستكون حينها تجربة للشعب معهم وقد تعاد التجارب فتنجح أو تفشل فهذه هي طبيعة البشر مسلمين وغيرهم .