ديمقراطيات من القرآن -3
من البديهيات الديمقراطية أن كل طيف سياسي يجب أن يضع نصب عينيه أنه يمكن أن يكون في أحد الطرفين السلطة أو المعارضة ، فما هو الإطار الأخلاقي للأحزاب السياسية الإسلامية التي قبلت بالديمقراطية نظاما للحكم حينما تكون في المعارضة ؟ وما هو إطارها الأخلاقي حينما تكون في السلطة ؟
آيتان من كتاب الله الحكيم ترسمان الإطار العام للإسلاميين في كلا الحالتين:
الأولى : حالة المعارضة يرسمها قوله تعالى : “يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط” 80/5
والثانية : حالة الحكـم يرسمها قوله تعالى : “يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله” 135/4
أولاً : الإسلاميون في المعارضة : “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا . اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” 8/5 .
نلحظ أولاً أن الآية لا تتحدث عن حق موجود بين أيديهم، وإنما عن نوايا قيامهم كيف ينبغي أن تكون. فقالت كونوا قوّامين لله، أي اجعلوا الله سبحانه نصب أعينكم حال قيامكم، وحينما تتحدث عن القسط لم تجعل لهم من القدرة على الفعل إلاّ الشهادة. فمن هذين الجانبين : اهتمام الآية بتوجيه النوايا وانحصار القدرة في الفعل على أداء الشهادة أخذنا حالة المعارضة حيث لا سلطة في اليد.
إن الإسلام مع واقعيته وأخذه لقاعدة النفع والضرر في تقييم صلاحية الأشياء كما نَعَت الأصنام بعجزها عن النفع والضر واعتبرهما دليلاً على عدم الأهلية للربوبية ، ولكنه يدمج هذا المعيار بمنظومة أخرى من المعايير الخلقية والنفسيّة ، فهو لا يسمي العمل عملاً صالحاً لمجرد أنه نافع بل يجب أن يكون نافعاً ويجب أن يكون أخلاقيا ويجب أن يكون لوجه الله. وأصعب ما يصحّح الأعمال في نظر الإسلام هو الشرط الثالث: ابتغاء وجه الله.
إن تحقيق تجرد الأعمال الفردية حتى العبادية منها أمر صعب ، إذ الذات مجبولة على حب الجاه، فالمؤمن يقاوم نفسه ويأخذها في عكس الاتجاه الفطري حين يطلب التجرد في العبادة . وأما تجرّد الأعمال الاجتماعية العامة المكشوفة لسائر الناس والمحاطة عادة بالتبجيل والإعظام أو التوهين والتحقير فهو أمر في غاية الصعوبة، خاصة وأن أمثال هذه الأعمال غالباً ما تكون قرب الأربعين من العمر تلك المرحلة التي تدير فيها النفس أشرعتها نحو بحر الجاه والسمعة بعدما عبرت مراحل اللهو والشهوة والتكاثر.
وأول مقتضيات هذه الإضافة (قوامين لله) تجريد العمل من المصالح الذاتية فمن كانت هجرته لله ورسوله فقد وقع أجره على الله ومن كانت هجرته لمال يصيبه أو امرأة يتزوجها فهجرته لما هاجر له. وهذا القيد هو أعظم القيود في صحة أعمال العباد، الصحة التي تجعل العمل مرضياً عند الله سبحانه ومستحقا للأجر الأخروي .
ومن مقتضيات هذه الإضافة أن لا يميل ميزان الشهادة عند المؤمنين لأحدٍ على حساب حق لأحد، فالخلق كلهم عيال الله مؤمنهم وكافرهم موحّدهم ومشركهم من اتفق معك ومن اختلف. مهما كان الاختلاف بينك وبينهم في معترك الحياة ومسيرة التدافع، إلاّ أن ذلك لا يسوّغ لك ظلمهم وسلب حقوقهم ، ولو بإخفاء الشهادة لهم بها ، وهذا ما تحدّثت عنه الآية في شطرها الثاني: ” شهداء بالقسط ” حينما أتبعته بقول: ” ولا يجرمنّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى “. يقول المفسرون إن القوم المشار إليهم هنا هم الكفار و المشركون. فالكفار هم الأعداء الأشد للمؤمنين ، والمشركون هم الأشد اختلافاً مع عقيدة التوحيد، ولكن في مجال التدافع والمؤمنون لا يملكون إلاّ الشهادة فعليهم أداء الشهادة بالقسط لهؤلاء المشنوئين عندهم ، علماً بأن أداء الشهادة هذه قد تكلّف الكثير في عالم السياسة، وقد تفسد مصالح للمؤمنين وتجلب لهم أضراراً. فوقوف المؤمن يؤدي الشهادة بالقسط للمخالف له أمام زملائه ومحازبيه أمرّ له أثمانه في تجاذب القوى الاجتماعية، وكم فرَّ منه أغلب الناس إلاّ ذوي المروءة وقلّما هم. فهل يستطيع إسلامي من إسلاميي اليوم أن يشهد بالإنصاف إلى “علماني” أو “شيوعي” أو “إقطاعي” دون أن يكترث ؟
ومن مقتضيات القيامة لله أن يكون الإصلاح هو المقصود في نفسه لا أن يتحقق على يدٍ مخصوصة هي يدنا، نعم طبيعي أن نحب التشرف بذلك، ولكننا لا نحزن إذا ما حقّق غيرنا ما أردناه. بل نشهد لمن حقّقه بالفضل ونتعاون معه على البر، ونقرّ لمن هو ربما من خصومنا بالصواب الذي فعله ولا نبخل عليه بالمساندة.
وأخيرا تقرر الآية أن الشهادة بالحق لمن نكره أو لمن نعادي أو لمن نخالف هي طريق نحو التقوى، والتقوى في الدين هي أول درجات الصعود نحو سلم الكمالات الروحية والأخلاقية وبدونها يستحيل على المؤمن الترقي، ومن هنا يتنبين أن السياسي الذي يتعصب ضد حقوق الآخرين المعارضين والمخالفين إنما يجر نفسه بعيدا عن تقوى الله وبهذا يتآكل دينه ويعلوا الرين على قلبه، ليكون سياسيا محترفا ولكنه ليس إسلاميا. ولو تعامل أهل السياسة جميعاً بهذه المبادئ وهي ليست مستحيلة إلاّ في عقولهم لتقاربت القلوب وتضافرت الجهود .