تعد عملية الإصلاح السياسي للدول التي تحولت نحو الديمقراطية والمشاركة الشعبية بعد عقود طويلة من التسلط والقمع عملية معقدة ومتشابكة، وسيستمر الاختلاف بشأن جوهرها وتفاصيلها وتقييم التجارب ومدى تطورها سلبًا أو إيجابًا من قبل الأطراف المشاركة والفاعلة، ولن تحوز على رضى الجميع لأسباب متعددة بعضها أصيل وبعضها مرتبط بتحول المصالح وانتفاء الفوائد، إلا أنَّ الثابت أنَّ الجميع لا ينكر بأنَّها عملية متحركة وغير جامدة، تتحرك معها الأهداف المرجوة للتحول ويتحرك معها مقياس النجاح والفشل، وأنَّها لن تضل أسيرة أهداف ومقاييس بداياتها، ومن يرى غير ذلك عليه مراجعة التاريخ الحديث والتجارب المشابهة، وتجربتنا في البحرين ليست استثناء عن مثيلاتها، فبعد عشر سنوات من ميثاق العمل الوطني نحن بحاجة لمراجعة جادة وصادقة لاستكشاف الايجابيات للبناء عليها و تحديد السلبيات لتجاوزها عبر الاستقراء العلمي للمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبعد عن ميزان الإرباح والخسائر الذاتية للأفراد والمؤسسات واحترام الرأي العام.
لا بدَّ من التأكيد على أنَّ المقارنة بين مرحلة ما قبل الميثاق الوطني وما بعدها برغم أهميتها وأهمية ما تحقق فيها، قد حقق نقله نوعية هامة على الطريق الصحيح وأسس لحراك سياسي ثقافي وفتح الآفاق لتطوير التجربة، ولم يعد من اللائق تخيير المنتقدين والطامحين إلى خطوات أوسع نحو التحول الديمقراطي تخييرهم بين مرحلتي ما قبل وبعد الميثاق، تلك ليست مقاربة سليمة وليست في الوقت الصحيح؛ لأنَّ هذه اللبنات تشكل أساسيات حقوق المواطنة في القرن الحالي حرمت منها الناس لأسباب وعوامل تجاوزها الجميع بالميثاق الوطني أملا في مستقبل واعد يعوض سنوات الحرمان و يعجل في تلاحم الأيادي والسواعد للبناء والتقدم.
تتحمل السلطة السياسة اللوم الأكبر على ما آلت إليه الأمور؛ لانَّ لها اليد الطولي، إذ تحت تصرفها موارد بشرية ومادية عديدة تفوق ما لدى الإطراف الأخرى، ويؤخذ عليها التعامل بانتقائية مع مكونات المجتمع بتقريب البعض ومحاولة تحجيم إطراف أخرى انطلاقا من هواجس و مخاوف وهمية، نقول ذلك من دون تبرئة الأطراف الأخرى ممثلين في النخب السياسية والثقافية وعناصر الحراك السياسي من أحزاب و تكتلات ومؤسسات المجتمع المدني التي انشغلت فيما بينها باختلافات عقائدية وأدخلت المناصرين في مماحكات وتحجيمها للأهداف الوطنية لمصلحة المصالح الحزبية الضيقة ومحاولاتها بناء التكتلات الشعبية حول أهدافها هي وليس الهدف الأكبر والأهم.
ويمكن رصد النتائج للتغيير السياسي على مستويات عدة مع التأكيد على الايجابيات التي تحققت ليس للوقوف عليها بل لاعتبارها خطوات في الاتجاه الصحيح المطلوب إبرازها وليس اعتبارها نهاية المطاف، فعلى المستوى السياسي فالمشاركة في القرار السياسي بين الحاكم و المحكوم كمطلب للحركة الشعبية عبر عقود من الزمن بصيغته المحددة ببرلمان مكتمل الصلاحيات وتمثيل شعبي لفئات المجتمع ودستور نابع من الإرادة الشعبية كل ذلك لا زال بعيد المنال ولا يبدو في الأفق تحققه ولا بوادر التخطيط لمعالجة هذا الخلل المحور للأمور الأخرى المتفرعة منه.
اجتماعيا ليس أدل على الانقسام و التناحر الطائفي بين أبناء الوطن وتكتل كل طائفة حول رموزها وقياداتها واعتبار الانتماء والاستقواء الطائفي حصانة وحماية مما أنتج تخوف من الآخر والتعامل بين مكونات المجتمع بريبة، وانقسم العمل الاجتماعي الإنساني الذي يدفع إلى التقارب والتراحم بين الإفراد والجماعات إلى وسيلة للتكتل والاستعداد إلى معارك قادمة بين الأطراف باستخدام شعارات وعقائد كان الدين أبرزها، ليصبح الخوف من القادم المجهول سيدا للموقف. ومن أهم المعضلات الاجتماعية تفاقم ظاهرة الفقر عبر تآكل الطبقة الوسطى واتساع الطبقة المعتمدة على الدعم الاقتصادي الرسمي و الشعبي.
وأهم المشاكل الاجتماعية تكمن في اختلال التركيبة السكانية بدخول غير مبرمج وغير مقنن لفئات خارجية، ومحاولة دمجها عنوة في المجتمع لأسباب سياسية وأمنية والتي بدأت بوادر تشكلها كأزمة اجتماعية و سياسية.
أما على المستوى الحقوقي فقد برزت البحرين كتجربة رائدة نتيجة للخطوات الشجاعة بعد التوقيع على الميثاق بإعادة الحقوق المنتهكة في السابق ابتداء من تفريغ المعتقلات وعودة المبعدين وإعادة المفصولين إلى إعمالهم و غيرها بالإضافة إلى النشاط الملحوظ لهيئات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني بحرية وعودة للصحافة بمساحات حرية أوسع ومن ثم الانتكاسة التي حصلت لاحقا من خلال الإبقاء على الصورة الجذابة ظاهرا وتفريغ العمل من محتواه الحقيقي.
واقتصاديًا ممثلة بالبطالة وهذا لا يتوافق مع الموارد الاقتصادية وعدد السكان واستمرار معضلة الإسكان بالطلبات المتأخرة واستمرار تفاقمها وأهم هذه المشاكل الاقتصادية تآكل دخل الفرد برغم الارتفاع للرواتب بسبب الغلاء.
كان المؤمل من التغيير السياسي استنهاض الطاقات الكامنة في المجتمع و هي كثيرة و متعددة لو وظفت بشكل أفضل عبر وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وبتفعيل المواطنة الصحيحة بتوازن الحقوق والواجبات لوضع بلدنا على طريق الدول الناهضة لتحقيق الرفاهة للجميع وليس بتوسيع الهوة بين القلة المرفهة والأغلبية الفقيرة.
وانطلاقًا من القاعدة العلمية التي ترى أنَّ الاختلافات حالة إنسانية سليمة وساحة لعدم تأكل القيم والعقائد والبرامج السياسية والاجتماعية بامتحانها في الواقع العملي، وأنَّ جميع الاختلافات مهما كانت لن تكون عائقًا إذا ما استوعبنا أنَّ الخيار الوحيد المتاح لنا جميعًا هو العيش المشترك، فقد حان الوقت الذي يحتم علينا جميعا التأمل في الحال الذي وصلنا إليه انطلاقا من المصلحة العليا الأهم وليس المصالح الضيقة الخاصة، والنظر بروح التآخي والمحبة للآخر والعمل على إعادة القطار إلى سكته الصحيحة من خلال إعادة تقييم صادق للمرحلة السابقة للانطلاق لمستقبل الأيام التي لم نعشها بعد.