رغم أنّ بعض أنظمتنا السياسية تجازف أحيانا فتوسّع هامش الحريّة الصحفيّة بغرض التنفيس الحاجز عن الانفجار وهو ذكاء منها، وهي بمثابة الشعرات الشهباء في كبشنا الأسود، إلا أنّ أكثر ما هو معمول به يجري تحت الاعتقاد بأنّ الإعلام الحرّ خطر على النظام، ولهذا فقد كان إعلامنا منذ أن عرفنا الاستقلال رسميًا يسبّح بحمد السلطان، وتعدّه الدولة أحد أجهزتها المهمّة في صياغة عقل الشعب ومقارعة المعارضة التي كانت تعرّف دائمًا بالخارجين على القانون، أعداء النظام، وخونة الوطن، لأنّ الوطن لم يكن يفرّق عن النظام في مفهومها وإعلامها.
لم يكن الناس يسمعون شيئًا من الإذاعة والتلفزيون والصحف إلا ما تريد لهم الدولة أن يسمعوه، وللعجب كانت بلداننا دائمًا على صواب، وفي خير، وتسير حثيثًا نحو التقدّم، ولم يكن هناك فساد في الإدارة، ولا سرقات للمال العام، ولا محاباة في الوظائف، ولا ظلم ولا استئثار، وكأنّنا في المدينة الفاضلة، اللهمّ إلا إذا أرادت الدولة انقلاباً على بعض رجالها، وأما خصومنا فليس لهم ذرّة من عقل ولا رشاد، والحقّ دائماً معنا وهم دائماً معتدون آثمون، حتى لو كانوا شعوباً مستضعفة تشاركنا الوطن كالكُرد والبربر.
كلّ صحفي أو إعلامي عليه أن يعمل ككاتب مأجور، أحبّ ذلك أو كرهه، مع أنّه قد لا يستلم إلا راتبه المتواضع، فعليه أن يؤيّد مقالة الدولة وإلا فسيحرم من العمل، ولكنّ الدولة كانت تدّخر دائماً أقلاماً مخصوصة مقرّبة مُعدّة للمقارعة والمهارشة والمناهشة والسباب السليط، تسلّطها على من تريد من خصومها، ولهؤلاء منزلة المقرّبين بينما لمحبي الستر والستيرة من بقية الإعلاميين منزلة أصحاب اليمين.
كانت الدولة تنفق الكثير على الصحف ليُسمعها الكتّاب ما تريد، وليُسمعوا الناس نيابة عنها ما ترغب، وليكرّروا على الأسماع ما تردّد، ولهذا فهي دائمًا لا تسمع إلا رجع صداها، أبيضها أبيض وأسودها أبيض، وأحمرها أبيض، فهي مكلّلة بالبياض حتى حين تعتل، وكأنّها نزيل المستشفى؛ عليل مكلّل بالبياض، وإن مات لُفّ في بياض.
عودوا بنا في البحرين – ولكم أن تقيسوا سواها – إلى قريب العهد مما لم تمحه الذاكرة بعد، خذ مشكلتنا مع قطر على الحدود والجزر، هل قال أحدٌ للدولة كلمةً يُصلح فيها ذات البين، بين بلدين شقيقين عن صدق، يسكنهما مواطنون من عائلات واحدة، وتربطهما علاقة مصاهرة وجيرة، ولا غنى لهما عن بعضهما؟ هل قال عاقلٌ للدولة يومها في البحرين: تروَّي وترفَّقي وكفّي عن معلول الكلام وقبيح السباب، فإنّما أنت تمزّقين ثياب نفسك، وتجرحين نفس عرضك، فالدمّ الدمّ والهدم الهدم، إخوة من رحم لا ينبغي أن ينسوا الفضل بينهم؟ هل قالها قائل؟ أحسبُ أنّها كلمات كانت في بعض القلوب ولكن لم تجرؤ الألسن على نطقها، اللهم إلا المرحوم المردي في أول استلام الشيخ خليفة بن حمد حكم قطر لموعدةٍ وعدها إياه ثم غلبت العصبية، لأنّ دين الإعلام عبادة الحاكم لا النصح له.
وما إن اتّفق الملك والأمير على المحاكمة الدولية حتى بدأنا الحرب على حيثيات المحكمة الدولية، هم كاذبون مخادعون، وما إلى ذلك مما يثير الحقد، بينما إرادة الدولتين الظاهرة تريد حلّ المشكلة بالسلم، فهلا قلنا خيرًا أوصمتنا عن الشر، لئلا تستمر العداوة الباطنة ثم تظهر في مثل ما نراه من تشدّد على صيد حفنة من السمك!
واذكر موقف إعلامنا من المفاعل النووي الإيراني، فإنّه لمّما يثير الضحك حقّاً، فقد غيّرنا مقالتنا بين ليلة وضحاها، فقد كنّا نهوّل ونولول، ونهرف بنفس مقال الأمريكان حرفًا بحرف، ونكاد ندخل معهم في حربهم وكأنّها حربنا، ونسوق نفس الحجج الواهية من أنّنا نخاف من تلويث الخليج، وأنّ إيران لا تحتاج للمفاعلات النووية وهي ترقد على بحر من النفط، وأنّ إيران لها مطامع في الخليج وتريد أن تركّع دوله، كلّ ذلك تبدّل في ليلة وضحاها بعد أن قرّر الغرب نشر التكنولوجيا النووية في بلادنا، وجاء يستحثّنا على شراء مفاعلاته، والغريب أنّه كرّر على مسامعنا نفس الحجج التي كانت إيران تدافع بها عن خيارها النووي، فقام إعلامنا يؤذّن لنا بها ليلاً ونهاراً: النفط سلعة نافذة، وتأمين المستقبل يتطلّب توفير مصادر مضمونة للطاقة وما إلى هنالك.
فهلّا كان هذا الكلام ابتداءً من عقل حرّ وقرار حرّ بدلا من أن يكون محاكاة من لسان عبد لمقالة سيّده، فعجبًا والله يخزي النفس ويريق ماء الوجه أن نحسّن بين ليلة وضحاها ما كنّا نقبّحه للتو، لمجرد أنّ فرنسا استأذنت فأذن لها أن تبيعنا محطات نووية يستردّون بها أموالهم التي أعطونا في مقابل النفط، ليحسّنوا أوضاعهم الاقتصادية.
واذكر موقف إعلامنا من عهد ما قبل الميثاق، هل كتب أحدٌ من غير المعارضين ناصحاً الحكومة مخلصاً أنّ الوضع غير سديد، وأنّ الأمر يحتاج إلى تغيير، هل قال أحدٌ منهم مقالةً ناصحةً في أحداث التسعينات قبل أن يبدّل الملك مقولته ويعلن الميثاق والانفتاح؟ هل كتب أحدٌ منهم يبيّن الأخطاء التي نتجت عن استبداد قانون أمن الدولة؟ هل قام قلمٌ ينصح بالحقّ الواجب لبلوغ شاطئ السلامة؟
لا شكّ أنّ النصيحة كانت تختلج في صدور الكثيرين ولكن لم يكن أحدٌ ليقولها معلنا النصيحة، بل كان الكلّ في طريق التصديق لا الصدق؛ لأنّه يعلم أن لا أحد يحبّ سماع الناصحين، وهو لا يريد أن يكون من المغضوب عليهم، ولكن ما أن يُعلن الملك عن قوله الجديد حتى ترى الأقلام تطوي راياتها على استحياء لتبدأ في التأمين مع القول الجديد والعصر الجديد، فهلا كنتم من الناصحين قبل ذلك؟ ولكنّ الحكومة لم تكن تحب ذلك، والإعلاميون ليسوا فدائيين، ولا يحبون أن يخسروا رزقهم، فهم يكيلون للحكومة ما تشتهي، ضرّاً أو نفعاً.
نحن الآن نعيش فترة من الانفتاح الإعلامي يسمح بقول قدرٍ من الرأي الآخر، ولكنّ الإعلامي نبيه، فنفسه توسوس له أنّ الربيع قد لا يطول فالورود أقصر عمراً، وقد يتلو الربيع خريفاً، فربيع أمتنا دائما قصير وخريفها أبدي سرمدي، فهو كأيام الله الواحد منها بألف سنة، وما عوَّدتنا شمسنا أن تطيل الشروق: الميثاق وأمن الدولة ابنان لأم واحدة، فما يدريك كيف هي كينونة ابنها الثالث، هكذا يحدّث الصحفي نفسه، وهكذا يفني الإعلامي من أصحاب اليمين أيام الشروق في انتظار الغروب.
وعليك أن لا تلومه، فما هو بالشاذ عن غيره من أبناء أمته، ففي عقلنا الباطن من الثقافة ما يعلّمنا أن السلطان ليس له أمان، فهو أحد الثلاثة الذين لا أمان لهم أو قل لا أمان منهم: البحر والسلطان والزمان، فمن علامات فطنة الإعلامي العربي أنّه جبان إذا ما توطّن، شجاع إذا ما تلندن، فليس الثعلب الذي حكم بتثليث الفريسة بين وجبات الأسد بعد أن تعلّم الدرس من رأس الذئب بأعظم حكمة منه.
نسمع الأيام قولاً يقدس الإعلام، ويُثني عليه، ويثمّن دوره، ويطالبه بالهمّة والموضوعية والصراحة، ولكنّ الإعلامي لمّا يفق بعد من صدمة قانون الصحافة، فلا تلوموه إذا تشكّك، فهو ابن الريبة، ولم يأمن بعد من الحبل أنّه أفعى، ويحتاج زمناً من الفعل ليصدّق معسول الكلام.
إنّ الإعلام الحرّ ضرورة للحكومة قبل أن يكون ضرورة للناس؛ لأنّها أحوج من غيرها لسماع القول المختلف الذي قد يكشف لها عن رأي لم يذهب إليه وهمها، ولا دار في خلدها، وقد يتمكّن رأي من قائل نكرة أن يشكّل رأياً عاماً يؤثّر في صناعة القرار، وهذا الغرب يقدّس الإعلام الحر لا لأجل لا شيء، بل لأنّ خيره على الدولة والناس أكثر من شرّه، إنّ حرية القول تفتح الطريق لحرية الفكر، الأساس الذي لا تقدّم لأمة من دونه، ثم ما عليها إلا أن تكمل العقد الماسي هذا بالماسة الثالثة فتفتح الطريق نحو حرية العمل، فإن تمّت لأمّة الحرية في الفكر والقول والعمل فقد تهيأت للرقي والإبداع، ولن يكون لعهد الميثاق معنى ما لم نكمّل هذه الحريات الثلاث في مجتمعنا ودولتنا.