هل حدث لك وأنت تجوب الأسواق والشوارع بالسيارة فتبهرك أضواء المحلات التجارية المنتشرة على طول الشارع، ويخطف بصرك التنوع والتأنّق في المعروض من بضائعها، فيخال لك بأنك لو أُتيحت لك فرصة التسوّق فيها لحصلت على كل ما تتمنّاه نفسك من ضروريات وكماليات، ولكن بمجرد أن تترجّل وتبدأ تسوّقك فعلاً تُفاجأ بأنّ البضائع ليست بالمستوى المطلوب من الجودة، وإنما بدت جميلة من بعيد لكثرة الأضواء المسلّطة عليها، ولطريقة العرض الأنيقة التي أُبرزت فيها، فتعود أدراجك خائباً، وقد تقرّر أن لا تعود لها ثانية، أو أن تتبضّع من المعروض – على مضض – لأن هذا هو أفضل الموجود.
التصريحات الصادرة عن معظم المسئولين في وزارات الدولة والمكتوبة بالمانشيت العريض على طول الصفحات الأولى من الصحف وعرضها، والصورة الوردية التي تحاول بعض وسائل الإعلام الترويج لها عن مستوى الحريات، والانتعاش الاقتصادي، وجودة التعليم، وتقدير العلم والثقافة، والاهتمام بحقوق المواطن، والتنمية، مثلها مثل تلك (الدكاكين) التي تجذبك بضاعتها من بعيد فإذا اقتربت منها وجدتها شيئاً مغايراً عمّا بدا لك، فتتساءل أهو ضعف في البصر أم فنّ الإعلان والدعاية السياسية الرائج اليوم عمّى علينا الواقع وحوّل قضايانا الوطنية إلى (متاجر) لبيع الأوهام ومراوغة العقول حتى باتت تصريحات بعض كبار مسئولي الدولة المتكرّرة والفاقدة للصدقية كالدعايات البليدة التي تملّ من مشاهدتها فإمّا أن تخفض صوت التلفاز، أو أن تغيّر المحطة كي لا تسبّب لك مزيداً من الإحباط والانزعاج.
هكذا يتعامل كثيرٌ من المواطنين مع تصريحات مسئولي وطنهم، بالتكذيب واللامبالاة، وهو ردّ فعل طبيعي لتعامل المسئولين مع انتقادات المواطنين أو شكاواهم الحقّة، فهم (المسئولون) – رغم أنهم – متابعون جيّدون لكل ما يُقال ويُكتب سواء في الصحف أو في المنتديات الإلكترونية – إلا أنهم لا يعيرون انتباها للرأي الآخر المخالف وربما الحانق بل يحاولون خنقه، مع أنه يُنتظر ممن يريد أن يمسك بزمام الأمور بحكمة ليساهم في إعادة السلم الأهلي للوطن أن يأخذ بعين الاعتبار آراء هؤلاء المواطنين المحتجّين والغاضبين ويدرس مدى صحتها، ليقوم بنزع فتيل الأزمة، ويعطي كل ذي حقّ حقه، أما سياسة تكميم الأفواه وخفض سقف الحريات بغلق المنتديات، وتوظيف وسائل الإعلام للنفخ في الخلافات الطائفية، وتضخيم القضايا الأمنية لذرّ الرماد في العيون، عوضاً عن حلّ المشاكل الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، فذاك فعل المراوغين، لا فعل الحكماء الصالحين (الحكم الصالح).
تقول محدّثتي: تصوّري، مررت على القرية الفلانية فوجدت أزقّتها مضاءة بأعمدة النور (!)، وذهبت إلى حيّ من الأحياء القديمة فرأيت طرقاته مبلّطة (!)، وتابعت مستنكرة: لماذا لا يشكر الناس هذه الجهود المبذولة لأجلهم، ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ ولما لا تذكر الصحف هذه الإنجازات العظيمة؟ نظرت إليها مدهوشة، وانعقد لساني لهذا المنطق الغريب، وقلت في نفسي: أهذا أقصى ما يستحقّه ابن البلد، أليس هذا أدنى حق من حقوقه التي ضمنها لهالدستور؟
وتتساءل أخرى بلسان حال الكثيرين من المهتمّين بالشأن الوطني: ألا يمكن أن تعالَج مشاكلنا الداخلية فيما بيننا دون الحاجة إلى نشر الغسيل على صفحات الجرائد؟ إلامَ العودة إلى مسلسل العنف المتبادل؟ لما لا تُفتح مساحة حوار صريح وصادق بين الحكومة ومواطنيها، كي تستمع إليهم، ولا يضطروا الشكوى عليها عند غيرها أو كشف مستورها؟ ومتى ستبدأ بتحسين الوضع الاقتصادي لمواطنيها، وتهيئ لهم العيش الكريم، كما كفله لهم الدستور، ولتنظر كم سيخفف ذلك من التوتر الأمني الذي يكاد يعيدنا إلى حقبة التسعينات.
في الذكرى الثامنة لميثاق العمل الوطني كنا نتمنى أن يحتفل الوطن بكل أطيافه بمناسبة أُطلقت فيها الحرّيات وبُيّضت فيها السجون، وعفا الناس عمّا سلف من أخطاء وممارسات ترهيب قانون أمن الدولة سيء الصيت، وانتظرنا الأيام الموعودة، وهي أحلى الأيام التي لم نعشها بعد، ولازلنا ننتظر.
إن كان ثمة كلمة نصوحة لابد أن تقال قبل أن ينفرط العقد بين الشركاء في الوطن فهي: أعيدوا الثقة المفقودة بتحقيق الوعود التي قطعتموها على أنفسكم، وابحثوا عن الحلقة المفقودة التي تربط بينكم وبين الناس بحوار وطني مسئول مع المخلصين لهذا الوطن من كلا الطرفيالمتنافرين، ليكون هذا البلد، بلد الأمان قولاً وفعلاً.