التبعية مقبرة الإبداع والحرية

قيل: “أنّ أحد البخلاء خرج ذات ليلة ومعهابنه في نزهة, فلما ابتعدا عن المنزل قال لولده في غضب: قاتلك الله.. نسيت إطفاءالمصباح, اذهب في الحال وأطفئه قبل أن نخسر درهما، فأخذ الولد يعدوسريعا وأطفأ المصباح ثم قفل راجعا, فلقي والده في غضب أكثر, فسأله عن السبب، فقال الوالد لقد ضاعفت عليَّ الخسارة، فقال الابن: وكيف ذلك؟ فقال: أبليت حذاءك في ذهابك وإيابك، فقال الابن: كن مطمئنا يا والدي فلقد ذهبت ورجعت حافيا”.. هكذا يعجّ التراث بالنوادر التي طالما نرى فيها الأبناء نسخا من آبائهم في الطبائع والصفات ومزاولة الأعمال ومحاكاة نفس المهارات.

الكثير من الآباء يتحدثون لأبنائهم عن تجارب حياتهم وما قاسوه من صعاب تحدوا فيها عوالم المستحيلات ليُذعن الأبناء بالاعتراف بمواقع آبائهم في الصدارة، وهم بالتالي يوحون إلى أبنائهم عن قصد أو بدونه ليستنسخوا تجربتهم في أولادهم وبنفس درجة عزم الآباء وروح تحديهم. وهو أمر مسوق للاعتزاز بغنى الجذور والمنبت، ولولا أنّ الأبناء خلقوا لزمان غير زماننا، لكان الأمر طبيعيا ومقبولا. فلماذا نُقسر أبناءنا على أن يكونوا نسخا كربونية منا؟ أنريدهم إمّعات ذائبة في كهوفنا؟ هذه هي المنظومة التي نتربى عليها نراها جلية في حال العلماء وأتباعهم، وبين رؤساء العشائر وأفرادها، كلٌّ يريد الاحتفاظ بامتداد شخصه أبد الآبدين حتى لا يُطوى اسمه بين حوادث الزمان، وطوارق الحدثان.

يُذكر في ترجمة حال الفقيه العلامة الشيخ الطوسي وهو من أعلام القرن الخامس الهجري أنه فاق أقرانه في النبوغ العلمي بتصانيفه المعمقة حتى بلغ الحال بالفقهاء الذين عاصروه بعد نبوغه وشهرته، بالتوقف والعجز عن مجاراته بجعل فتاواه أصلا مسلما، يكتفون بها، ويعدّون القول في قبالها، تجاسرا على الشيخ وإهانة له، واستمر الحال مائة عام تقريبا حتى عصر الشيخ ابن إدريس وهو أول من خالف بعض آراء الشيخ الطوسي، وفتح باب الردّ على نظرياته، وكان يسمي الفقهاء الذين لم يناقشوا آراء الطوسي بالمقلدة رغم اتصافهم بملكة الاجتهاد، لقد نبغ الفقيه المجدد ابن إدريس حين أدخل (العقل معيارا لتقييم الروايات)، وكان المقدر من تأثير الأجواء العامة، والوسط المحيط بابن إدريس أن تذوب شخصيته العلمية، وأن تضيع في ظل قدسية الشيخ الطوسي، ولا غرابة إذ أطلقوا عليه “الشاب النزق” أي الشاب الطائش الخفيف، إمعانا في صناعة التبعية وقتلا لروح التجديد، لأنهم يرون الزعماء العظام والفلاسفة الكبار رموزا “عقمت الأمهات أن تلدن أمثالهم” ومع شديد الأسف هذا التصنم يُعدّ في نظر الأتباع توصيفا عدلا، وما دروا أنّ هذا مرض قاتل: يقزّم من يؤمل له العلو، ويحطم الذوات الطموحة، ويميت الإبداع، ويُبقي الأعوج والناقص على نقصه واعوجاجه.

يُثار شعار “معكم معكم يا علماء” هذا الشعار ترفعه حناجر الأتباع كلما أرادوا أن يوضحوا ضخامة تيارهم وحجمه الحقيقي في الشارع أمام المؤالف والمخالف، وهو شعار ينبئ عن شدة موالاة الأتباع للعلماء، واستعدادهم لبذل الغالي والنفيس من أجل الإيمان برؤية ما يراه قادتهم وعدم التخلي عن خطهم مهما حرص المنافسون على فكّ الانقياد بين القادة وأتباعهم، وهو شعار جيد وبرّاق يرى فيه الأتباع أنهم إنما ينطلقون من الآية التي تخاطبهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فإذا كان العلماء بالفعل من الصادقين مع الله، وفي مواقفهم ، ومع مبادئهم، ومع رؤيتهم التي تبايعوا عليها مع الأتباع، وإذا كان الموالون يملكون حرية التعبير فيما يتبعون ويخالفون، والعلماء أنفسهم يشقّون لهم هذا الدرب، فإنها معية إيجابية، مشتقة من الفعل (معع)، معيّة تحتفظ بالتحرر الفكري لكل شخصين أحدهما مع الآخر، أو مجموعة مع أخرى، وكلاهما له سماته وخصائصه، فيكونان رأيين متساندين، هذا يقف إلى جانب الآخر دون أن يذوب أحدهما في الآخر، وهنا تكون معية فيها إثراء وتحمل روح التعدد.

لكن هذا الشعار في عالم الواقع غالبا ما يحوي صناعة التبعية المقيتة، ومردّها إلى أمرين اثنين: الأول من العلماء أنفسهم، فإذا كان العلماء مهووسين إلى درجة الاعتقاد بوصولهم إلى الكمال الروحي؛ فإنهم يزكون أنفسهم ويتباهون على غيرهم، ولسان حالهم يقول: رأينا حكم وعلم، ومنطقنا السداد والحكمة، وسجيتنا تقوى الله والعمل بإرادته، أسوتنا الأنبياء والمعصومون، ولنا مراتب في الكشف والحضور الإلهي، فالراد علينا راد في آخر المطاف على الله جلّ جلاله، وكلما رأى أحدهم قدسية لنفسه ونُسجت على لسان المقربين الكرامات والفيوض والألطاف الربانية؛ فإنهم حتما يتصورون إدراكهم الكمال المعرفي واختصار أزمانه وحرق المراحل في اكتساب خبراته، ويستحيل حينئذ تخطئة هؤلاء العلماء ماداموا كذلك.
أما النقص الثاني فمن الأتباع أنفسهم، فإذا كان الكثير منهم لا يرى إلا ما رأى شيخه وعالمه، والبعض قد يقتنع أنّ الحق ليس محصورا عند أحد من الناس، وأنّ رأي شيخه غير مقتنع منه، ومع هذا لم يتعود ولا يجرؤ لا على تخطئة شيخه أو مناقشته في دليله، بل من الضروري مسايرته والتعبد برأيه؛ فإنه يمارس خنق نفسه بيده، ويغري شيخه على إمضاء ما يراه من مواقف وأقوال دون أدنى معاودة أو نظر في صحة الأحكام، وتشخيص المواضيع، له أن يأمر وينهى وهم يأتمرون وينتهون، فهم إمّعات وذيول، والتي جذر فعلها: (أمع) وسماتها ذوبان فرد في الآخر وانسحاق حريته، وقتل إبداعه، وقبرها في تابوت التحنيط والتقليد اللاواعي..

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة