التجنيس وحقوق الإنسان

مهما حاولنا أن نفتعل أحداثا لتغطي على مشكلة التجنيس، فتبعدها عن دائرة اهتمام الرأي العام زمنا ما، فإن ذلك لا يعني – إن أفلح- إلا تأخير حل المشكلة ليوم تنفجر فيه بانتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، وعن فتق لا رتق له في الوطن، والشجاعة كما الحكمة وكذلك الإخلاص للوطن تقتضي عدم المكابرة في ذلك، بل المبادرة لحل المشكلة بالتوقف عن توسعتها أولا، ثم بإلغاء الإغراءات غير العادلة التي شجعت المجنسين على التهافت على البلاد.

أول ما ينبغي على أهل البحرين أن لا يدخلوا في مشكلة التجنيس مشكلتهم في الطائفية المذهبية، فيتعصبوا في هذه تعصبا لتلك، فالطائفية والعرقية مشكلتان ناتجتان عن مرضين مجتمعنا البحريني مصاب بهما، ولا سبيل له للتخلص منهما إلا بالعلاج، وأما التجنيس فمشكلة طارئة اشتدت منذ المشروع الإصلاحي، ولا زال بالإمكان تدارك أخطر نتائجها، وإلا فلنستعد إلى إضافتها مرضا جديدا مستوطنا.

لا أحد ينكر أن التجنيس في بعض حالاته يحترم الإنسان وحقوقه، فالمهاجر الذي عاش في بلد ما وخدمها وصار كواحد من أهلها فمن الظلم أن يعد غريبا لمجرد أنه من عرق أو دين أو بلد آخر، ولكن الحق أيضا أن حق الاستضافة راجع لأهل كل بلد، ولهم الحق في رفض أن يستوطن معهم من لا ينسجم مع أعرافهم وتقاليدهم، أو من ينافسهم في أعمالهم وأرزاقهم، ومقولة أن الرزق على الله وأن البلاد هي لكل المسلمين وأمثال ذلك هي إما مقالات ساذجة أو مخادعة، فلكل مسلم وطن هو أولى به ، وعليه أن يصلحه ويعمره، ولو كان الأمر كذلك لهاجر كل فقراء المسلمين لديار أغنيائهم، ولخلت بقاع وازدحمت أخرى، فحق المسلم على المسلم أن يعينه لا أن يسكنه داره وهو له دار في موطن هو آمن فيه، فالتجنيس ليس ضيافة.

إن بإمكان الدولة أن تتغافل عن المشكلة، وعجبا للغافل كيف يغفل عن ما أبصرته كل عين؟ وعجبا للمتغافل كيف يطعن نفسه طمعا في قتل رديفه؟ ولكنها ستكون مضطرة لمواجهتها ولو بعد حين، فالحكم في البحرين وراثي ، والنجاح أو الإخفاق الذي يصنعه الآباء سيرثه الأبناء، ولا شك أن هذه أحد ميزات الحكم الوراثي القليلة، حيث يحرص الآباء على إصلاح البلاد لأبنائهم الذين هم منهم، وبالتالي فإن حل المشكلة قبل أن تتفاقم هو في صالح الحكم، وأما تركها تخلق صدعا عميقا فسيضطرهم أنفسهم لمواجهتها في ظروف أصعب وأشد.

قد تظن الحكومة أن التشابه المذهبي بين عصبة المجنسين موضع المشكلة وبين الطائفة السنية من المواطنين سيخلق لهم قاعدة ضمان بالوحدة ضد الطائفة الأخرى، وهذا هو الدافع الأقوى للتجنيس السياسي المحموم، ولكنه قرار ينظر للمشكلة من خلال ظرفها لا من خلال طبيعتها الحقيقية، فالطائفة الشيعية لم تتسيس إلا في السبعينات مع الصحوة الإسلامية ولم تشكل خطرا أمنيا إلا في الثمانينات والتسعينات مع المد الثوري الخميني، وقبل هذا كانت الطائفة السنية هي بؤرة المعارضة منذ الخمسينات أيام النهضة الوطنية والقومية واليسارية، وكانت منطقة القرى متخلفة عن ذلك إلا قليلا، فالتوجهات السياسية حوّل قلّب لا تثبت على حال، ومواجهتها ينبغي أن تكون بحلول مرنة متحولة هي الأخرى، وأما من مثل التجنيس فهو يخلق مشكلة أبدية لا يمكن تلافيها.

وفي التاريخ لم يفلح مستعين بالأجانب على أهله وناسه أبدا، وأشهرهم في تاريخ الإسلام المماليك الترك وغيرهم، الذين جلبهم العباسيون للنصرة فكانوا وبالا على الناس والحكم، ثم ما لبثوا أن أصبحوا هم السادة والوزراء وأهل العصبية ينزعون الخلفاء ويقتلونهم لأتفه سبب وعلى أيديهم خرج الملك من أيدي العرب ولم يعد إليهم أبدا حتى سقوط الاستعمار، فآخر حاكم عربي فعلي كان المتوكل وكانت هذه هي غلطته الكبرى، ومن بعده لم يتمكن عربي من الحكم مستقلا أبدا..

إن مشكلة الأجانب المجنسين أو حتى المهاجرين هي مشكلة متكررة في الكثير من البلاد الغربية والعربية، وما أن تسوء الظروف حتى يتحول المواطنون للانتقام منهم بحق وبغير حق، وهذا يحدث أمامنا في البلاد المتطورة التي شرعت حقوق الإنسان، فكم من عربي وتركي وغيرهم يُضربون في ألمانيا وفرنسا؟ وكم هو عدد المصريين الذين قتلوا في العراق بعد توقف الحرب العراقية مع إبران؟ وكم هم الفلسطينيون الذين ضربهم الكويتيون بعد غزو صدام من الذين لم يكن لهم في الغزو ناقة ولا جمل؟ وكم هم الأفارقة الذين قتلهم الليبيون والموريتانيون حينما تكاثروا في بلادهم؟ وكم وكم وكم؟ فهذه هي طبيعة المواجهة حينما يشعر المواطنون بالتهديد لفرصهم وأرزاقهم من الغرباء حتى لو كانوا عربا مثلهم أو سنة أو شيعة أو “زحرمان” لا يهم.

في عملي كمعلم كنت أدرس صفوفا أكثرها من أطفال المجنسين مع أطفال مواطنين بحرينيين سنة في الغالب وقليلا من الشيعة، وكم تعبت وأنا أتحدث علاجا لتعصبهم عن أن الناس كلهم أخوة عربا عجما بلوشا، بحرينيين بحرانيين سوريين يمانية، سنة شيعة، وما أكثر ما تذهب نصائحي أدراج الرياح ، فما تلبث الرابطة العصبية أن تظهر على الألسن والأبدان في معارك يومية لا تنتهي ، هذا وهم أطفال، و كنت أتألم لهذا الطفل الذي انتزع من بيئته وثقافته وزج به في معركة لم يرتكب فيها جناية ولا يعلم لها غاية، فتراه يعيش حالة الخوف والحذر من الآخرين، ويكون فكرة خاطئة عنهم.

لابد أن الجميع يعلم، أنه إذا ما قامت الفتنة، وما هي عنا ببعيد، فسوف تُنتهك حقوق الكثير من الأطفال والنساء، و تنشب معارك بين الجيران، وتُحرق البيوت والممتلكات، وتتكون عصابات ملثمة وغير ملثمة، وتتراكم أحقاد يصعب أن يغسلها الزمن، ولن نكون خِليا من المسؤولية عنها، فإما نتداركها اليوم وإلا فالكل شريك في الجناية. اللهم إلا أن تستنقذنا ضارة الأزمة الاقتصادية العالمية، ورب ضارة نافعة، فغدا القريب قد يشهد انهيار الدولار حتى ليغدوا عشرة فلوس، فيصبح دينارنا ثلاثون فلسا، فنذهب للخباز بخمسة دنانير، وتكون الليرة السورية والدينار اليمني والروبية الباكستانية أحسن حالا من دينارنا، فساعتها ستخلو بيوت كثيرة عاد سكانها إلى ديارهم، وسيظل في الدار من لا دار له غيرها.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة