التسامح والسلام ثقافة وممارسة

صافح!؟ لم يصافح!! سيصافح؟ لا، لن يصافح! ربما يصافح؛ فليصافح! وماذا لو صافح؟

انشغلت وسائل الإعلام الجماهيرية وشغلت جماهيرها معها بقضية مصافحة الملك عبدالله لشمعون بيريز في مؤتمر ثقافة السلام (!) المنعقد في نيويورك الأسبوع الفائت، وتناقلت الصحف والفضائيات بالتفصيل المملّ الإجراءات البروتوكولية التي أُعدّت بحرص شديد لمنع حدوث لقاء مباشر بينهما قد يستدعي المصافحة (المحرّمة) ويسبب إحراجاً لأيّ من الطرفين (المتوافقين المتخاصمين)، مع أنه كان من المفترض أن لا يُدعى مرتكبو جرائم الحرب الصهاينة لحضور هذا المؤتمر، إلا إذا كان الهدف منه مظلة للتطبيع مع إسرائيل.

لذا لم يفوّت بيريز على نفسه فرصة ردّ تحية بقاء الملك عبدالله في القاعة أثناء إلقائه (بيريز) كلمته بغزل صريح حين قال له: “أتمنى أن يصبح صوتك هو الصوت السائد في المنطقة بأكملها وبين كل شعوبها، فرسالتك هي الرسالة الصحيحة الواعدة”، مطالباً إياه بإحياء المبادرة السعودية للسلام، والتطبيع الكامل للعلاقات، والأهم من كل ذلك القيام بجهد مشترك من أجل مكافحة الإرهاب، كما لم يفته أن يذكّر بخبث شديد بحادثة لقاء الملك فيصل ووايزمن قبل 89 عاماً حيث أصدرا وعداً مشتركاً للتفاهم بين اليهود والعرب، في حين خلت كلمة الملك عبدالله من أي ذكر للقضية الفلسطينية والإرهاب المنظّم الذي يمارسه الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين وبالأخص أهل غزة من قتل وإبادة وتجويع وحصار، في تجاهل تام لجميع الحقوق المدنية والمواثيق الدولية والمضي قدماً في تهويد القدس المحتلة، واكتفى بمجموعة من التنظيرات والمواعظ الدينية الفضفاضة التي تليق بخطيب جمعة أو جماعة لا قائد أكبر دولة عربية في محفل دولي وفي حضور ثمانين من كبار قادة العالم السياسيين والدينيين، ليخرج المؤتمرون (المحبّون للسلام!) بإعلان نيويورك رافضين أن يضمّنوه فقرة تدين الاستهزاء بما يُعتبر مقدّساً لدى أصحاب الأديان.

مناقشة اختلاف الأديان، والدعوة لحوار الحضارات وثقافة السلام، لم تعد ترفاً فكرياً، ولا يصح أن تتحوّل إلى بهرجة إعلامية، أو نزهة سياحية، بل هي ضرورة حيوية وملحة لا تحتمل الانتظار، ولكن وكما أشار الرئيس اللبناني في المؤتمر أنه لابد من إرساء قواعد الحوار (الحق) فـ”القدس مدينة السلام، ولقاء المؤمنين بأديان التوحيد السماوية لا تحقق دعوتها التاريخية ما لم يرفع الظلم عن أبنائها وعن أبناء شعب فلسطين”، كما أنّ رعاية السعودية مؤتمراً دولياً لثقافة السلام في نيويورك في حين أنّ المطالبة بأبسط حقوق المواطنة على أرضها محفوف بالمخاطر، والتمييز المذهبي والديني قائم فيها على قدم وساق، والحال أنّ شعوب معظم بلاد العالم تشتكي من ظلم واستبداد وتمييز يمارس ضدّها برعاية بعض هؤلاء المتشدّقين بقيم السلام والمحبة والتسامح.

حدّدت الأمم المتّحدة يوم السادس عشر من نوفمبر “يوم التسامح العالمي”، ولعلّ هذا المفهوم من أهم المفاهيم التي يجب أن توضع لها ميزانية خاصة وبرامج مدروسة لكي نضمن ممارستها على أرض الواقع بطريقة منهجية وبتطبيق جميع معانيه الواسعة كالتسلّح بالعقل المنفتح على الآخر، والعقلية التي تتسع لتفهّم المختلف وقبوله، وقوة التحمّل، وخاصة أننا نمرّ بمرحلة تعاظم فيها الانتماء المذهبي على حساب الحسّ الوطني والشعور الديني الأخوي.

في يوم التسامح العالمي لابد من مراجعة الدول والشعوب لما خلّفه التطرّف المذهبي أو الديني أو الأيديولوجي من مآسي وكوارث وغصص إما بمساهمة مباشرة من تلك الأطراف أو بالصمت عمّا يجري، فعلى الدول تخصيص جزء من ميزانيتها لإعداد مناهج تربوية متخصصة لتعليم الطلاب معاني التسامح الواسعة، وتدريبهم على ممارسة خلق التسامح فيما بينهم، وإعداد برامج مكثّفة لإفساح المجال أمام مشاركة الأطفال وطلاّب المدارس في مناقشة وتطبيق مفهوم التسامح وتفعيله لنخرجه من أروقة المنظمات إلى قاعات الدرس بسواعد من يؤمنون ويحلمون بعالم يسوده التسامح والسلام ثقافة وممارسة.

في منطقتنا العربية والإسلامية قد لا يكفينا تحديد يوم واحد للتسامح لنمحو الآثار النفسية والاجتماعية التي تركها العنف والتطرّف على أبناء الأمة بل نحن بحاجة إلى “عام التسامح”، وليس بالضرورة أن ننتظر من يعيّن لنا سنة خاصة بالتسامح، فلتأتِ المبادرة منا لنحوّل أوطاننا إلى ورشة عمل مكثّفة تنشر قيم التسامح والسلام بمبادرات فردية أو جماعية، محلية وعالمية، بكتابة مقالات وقصائد وقصص وأناشيد وإعداد لوحات ورسومات وجداريات، وباستغلال المناسبات المختلفة، أو الإعلان عن مسابقات إقليمية ووطنية، وتعيين جوائز قيّمة لمن يساهم في أعمال تفضي إلى إعادة الاعتبار لهذا الخلق (التسامح) الذي غُيّب عنّا في سنين اللاوعي وأصبح كالغريب بين أهله، ولننشغل بأمثال ذلك وندع مناقشة مصافحة بيريز أو عدم مصافحته للمطبّعين والمطبّلين.

 

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة