بحث الرجل عن منشاره في دُرج أدواته في مخزن المنزل ولم يجده، فأعاد الكرّة عدّة مرات بعد أن سأل زوجته وأولاده الذين نفوا علمهم بمكانه، وبينما هو مشغول بالبحث، تذكّر أنه لمح ابن جاره وصديق ولده خارجاً من المنزل بسرعة، وكأنه يحمل شيئاً يحاول إخفاءه ثم دخل منزلهم وأغلق الباب وراءه بقوة، فتيقّن بأنه من سرق المنشار، وترسّخ يقينه حينما قام بتحليل حركاته وهو يغلق الباب ورأى فيها نوعاً من الإرباك المريب، ولأنه لا يمتلك الدليل الملموس على السرقة ليطالب بالمنشار، ظل يراقب جاره علّه يمسك بالدليل. وطوال تلك الفترة، تم حبيس أفكاره التي لا تستطيع أن تستوعب كيف يمكن لجار يدّعي الالتزام بالأخلاق والقيم أن يقبل منشاراً مسروقاً في بيته؟ ثم يجيب نفسه بنفسه، ولم لا، أليس ابنه نتاج تربيته، فيبدو أنّ السرقة في عائلتهم شيء اعتيادي.

ومرت الأيام والرجل يلاحظ التغييرات التي تحدث في منزل جاره، فجانب من سور الحديقة المكسور منذ مدّة تمّ إصلاحه، وأغصان الأشجار الكبيرة تم تقليمها، وهناك علبة مسامير على نافذة المطبخ المطلة على الحديقة، وأهمّ من ذلك، هناك كرسيّان خشبيّان وُضعا بجانبي الباب لم يكونا موجوديْن من قبل، فياله من جارٍ وقح، لم يكلّف نفسه حتى إخفاء آثار جريمة ابنه التي شارك فيها. ويوماً ما عندما فتح صندوق سيارته ورأى المنشار فيه، وتذكر أنه وضعه هناك قبل أسبوع حين ذهب مع أولاده في رحلة للمتعة والترفيه، لم تعد عيناه تركز على الأخشاب ولا المسامير ولا الأعمال التي لها علاقة بالأخشاب، ولم يكن يرى دوراً للمنشار في كلّ ما يتعلّق بجاره.

إنّ إحدى أهم القدرات التي يتميّز بها الإنسان هي القدرة على الربط بين الأمور والأحداث والكلمات واستنتاج واستخراج معان قد لا تبدو ظاهرة، ولكنها أيضاً من أخطرها، فحين تهيمن فكرة معينة علينا، تميل أذهاننا لربط كل ما نسمع ونرى بتلك الفكرة، وهذا لا ينطبق فقط على الأفكار التي تشغلنا، بل على الحال الذي نحن فيه أيضاً، فاليوم الذي نكون بحال ومزاج جيد ونشعر فيه بالفرح والرضا، تكون لدينا القدرة على رؤية ابتسامة الآخرين وفرحهم ورضاهم أكثر من الأيام التي نكون فيها في حال غاضب أو محبط، حيث نميل للتركيز على أخطاء الآخرين وهفواتهم وما يتسبّبون به من حزن وألم لأنفسهم وللآخرين.

فالتصوّرات الموجودة في أذهاننا لها دور رئيسيّ في تشكيل نظرتنا للأمور والنتائج التي نتوصل إليها والمعاني التي نعطيها لما يدور حولنا، وهذه التصورات غالباً ما تتشكل دون وعي وتفكّر مقصود، وهي تتأثر بتجاربنا ومشاعرنا السابقة مع الأشخاص والأحداث. فمن الأهمية والإنصاف بمكان أن ترنّ في أذهاننا أجراس الحذر كلما ربطنا أشخاصاً بصفات أو أعمال سيئة، ونتأكد من أننا قمنا بتقييم شريف، قبل أن نحوِّل ذلك الربط إلى حقيقة نرسخها في أذهاننا.

فمن حق الآخرين علينا أن نعطي أنفسنا فرصةً قبل اتّهام أي شخص بما يحط من كرامته وإنسانيته، حتى ولو بدا لنا الجرم واضحاً، وأن نفكر بأنّ الحكم على شخص في الذهن لا يختلف كثيراً عن الحكم عليه في العلن، فإصدار الحكم بحاجة إلى أدلة مؤكّدة وفرصة يدافع فيها المتّهم عن نفسه ليكون به نسبة من العدل والإنصاف.

فالآية الكريمة ” {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…}(الحجرات/12)” تعطينا مجالاً للتأمل بأنْ إذا كان بعض الظن إثم، مع أنه عمل ذهني فقط ولم يتطور لقول أو فعل، فكيف سيكون الحال إذا تحول الظن إلى يقين في أذهاننا، وتفاعلنا مع الطرف الآخر بتأثير منه؟ فأيّ ظلم نكون قد ظلمنا أنفسنا وأنفس مَن ظننا بهم السوء؟!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة