على الرغم من جمال جميع فصول السنة، إلا أنّ لفصل الخريف وضعًا مختلفا وهو يدعو للتأمل بشكل استثنائي، فهو فصل تَميُّزه ليس في درجة حرارته بقدر التغيرات التي تطرأ على الطبيعة بحلوله، فالخريف يحفّز الأشجار لتنظف ما بها وتجمعها في أوراقها ومن ثم تستعد لتسلِّمها في أيدي الرياح لتتساقط، ثم تبدأ من جديد بطراوةٍ وقوةٍ ونشاط. نادراً ما يخلو أيّ شخص من عادات وأفكار ومعتقدات لا تساهم في رقيه الإنساني، بل وقد تقف حجرة عثرة في سبيل ذلك، وقد تكون تلك العادات والأفكار والمعتقدات مترسخة بشكل نعتقد فيها بأنها جزء لا يتجزء من شخصياتنا، وإننا لا نستطيع تغييرها أو تبديلها، ولكن بقليل من التأمل وكثير من الإرادة، نستطيع أن نتيقن بأننا نمتلك قدرة تفوق تصوّرنا، نستطيع بها أن نصل للحياة الإنسانية التي نرتضيها.
فالشجرة تقوم بجميع الأدوار التي تساعدها لتكون في أفضل وضع تستطيع معه أن تقوم بدورها، أياً كان، سواء بإنتاج ثمرة معينة أو مساهمة في دورة الطبيعة، فهي تختار أن تمتص من الأرض ما يغذيها، وتتّحد جذورها وأغصانها وأوراقها معاً في عمل متقن بنظام وتناسق لكي توصلها لكمالها الذي خُلقت من أجله. وكذلك نحن، فإننا بحاجة لأن نرجع لأنفسنا، وربما نتعرّف عليها مرة أخرى، لنتذكر مَن خلقنا لنكون؟ وما هي البصمة التي علينا أن نضعها على هذه الأرض قبل أن نرحل؟ ونقيّم موقعنا الحالي من ذلك ونتأكد إن كنا فعلاً نمشي في ذلك الاتجاه أم في اتجاهٍ معاكسٍ له.
ومع بداية هذا الفصل، كأن الأشجار تناشد الإنسان أن يحذو حذوها ويمشي على خطاها، ليكون الخريف فرصة ليغوص داخل نفسه برفق ويبحث فيها بدقة وصبر، ويجمع كل ما يعيقه ويقلل من شأنه وكرامته الإنسانية، ثم يُخرجه ويُرسله مع الريح غير مأسوف عليه، فيتحرّر ويعطي نفسه مجالاً ليضع مكانها ما هو جميل ولائق بمن سجدت له الملائكة.
فلا نخجل من تغيير رأي أو عادة أو سلوك، ولا يقلقنا إحباط الآخرين لنا، فأشجار الخريف بالرغم من تعاملها مع كل المتغيرات القاسية التي تعيشها إلا أنّ جمالها مميّز مع اختلافه، ومن لا يستطيع أن يرى في عملية التغيير لحذف الغثّ والإبقاء على السمين في النفس إلا صعوبته.. والاعتراف الضمني بوجود خلل ووضع غير سوي يحتاج إلى تصحيح، ويعزّ عليه ذلك، فهو يمتلك نظرةً قصيرة الأمد لا يستطيع أن يدرك بأنّ الأشجار التي لا تقوم بما عليها أن تقوم به في فصل الخريف، لن تستطيع أن تستمد قوتها في الشتاء لتزدهر وتثمر في الربيع، وهو أيضاً لا يقوى على أن يكون غده أفضل من يومه ما لم يقُم بعمليات فرز ما في النفس والإبقاء على الأفضل فقط دون غيره.
وعملية التغيير تكون أسهل حينما يصاحبها محفّز خارجي بالإضافة إلى المحفز الداخلي للإنسان، ولكن أفلا تكفينا الطبيعة بأسرها في فصل الخريف للتحفيز؟