السفر عبر آلة الزمن (المعرفية) لنفقأ عين الفتنة

ثمّة نكهة خاصة لتحليل التاريخ وفهمه إذا ما توثّقت عراه بالحاضر واتُّخذ مرصداً لاستشراف المستقبل، فتكون قراءة التاريخ بوعي بمثابة رحلة عبر الزمن بالانتقال إلى الأمام أو الوراء من نقاط مختلفة في الزمن، بل ويسمح للسفر بين أكوان متوازية، وقد تقدّم العلم في فهم هذه الظاهرة وتفسيرها ولم تعد ضرباً من الخيال، فعبّرت عنها بذكاء بعض أفلام الخيال العلمي التي تتيح الفرصة لأبطالها للانتقال عبر الأزمنة المختلفة ليطّلعوا على أحداث كبرى حدثت على مناطق مختلفة على الأرض، كمشاهدة سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما مثلاً، ثم الانتقال إلى زمن آخر لمشاهدة كارثة طبيعية في بقعة أخرى من الأرض قبل وبعد وقوعها، أو معاينة حربٍ أهلية، ورصد انتصار هنا وهزيمة هناك، ليعيش في قلب الحدث .. وكذلك هي قراءة التاريخ.”.

كثيراً ما نسافر عبر التاريخ إلى الوراء لأخذ العبرة منه، ولكن نادراً ما نمتطيه لينقلنا سنين إلى الأمام ربما لأنّ السفر عبر الزمن إلى المستقبل أكثر غموضاً وتعقيداً وبحاجة إلى معطيات أكثر لحلّ مجاهيل متعددة عدا عن عنصر المفاجأة الذي قد يفسد كل التوقعات لمن يعتمدون على الحسابات المادية فقط ويغفلون الشق المعنوي في حساباتهم الذي لا يتأتّى إلا لذوي البصيرة والرؤية المستقبلية النافذة، وهذا يصدق على الأفراد كما يصدق على الشعوب والأمم، وكما أن أمّة بلا تاريخ هي أمة بلا جذور، فإن أمة بلا مستقبل مدروس ومبني على حسابات صحيحة (مادية ومعنوية) أمة مجهولة المصير.

في السابق كانت الأحداث تأخذ زمنا طويلاً حتى تتكشف الحقائق والنتائج المترتّبة عليها، ربما لشُحّ المعلومات بسبب التكتّم والسريّة، أو صعوبة تداولها لعدم وجود وسائل الاتصال سريعة الانتشار المتاحة اليوم، فكانت الجرائم التي تُرتكب بحق الأمم والشعوب – بشتّى أنواعها العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية – تتكرّر بحذافيرها في مناطق مختلفة من أنحاء العالم دون أن يتاح لها المجال للاستفادة من تجارب الأمم التي سبقتها، بل لا تكتشف الأمة الواحدة حجم الأذى الذي أصابها جراء تطبيق سياسات معينة ضدّها إلا بعد أن تدفع عدّة أجيال الثمن غالياً، ليأتي أخذ العبرة من التأريخ متأخراً في بعض الأحيان، وبلا جدوى في أحيان أخرى.

اليوم تغير الوضع – إلى حدٍّ ما – ولم تعد بعض الأمور بحاجة إلى انتظار طويل أو إلى سفر عبر الزمن حتى تكشف عن وجهها الحقيقي وإن كانت لا تزال بحاجة إلى جهد جهيد للخروج من هيمنة النظام العالمي المحكم لتأخذ الحياة (مستقبلاً) مجراها الطبيعي، فنقرأ على سبيل المثال في تاريخ الثورة البرتقالية في أوكرانيا التي بدأت قبل خمسة أعوام بفوز المرشّح المؤيّد من قبل أمريكا “يوشينكو” بزخم جماهيري كبير وبانقلاب (استعراضي) على نظام الحكم آنذاك المؤيّد لروسيا على أمل أن يُعطى الناس حقوقهم وتتحسّن أوضاعهم الاقتصادية وتتخلّص الدولة من الفساد المالي والإداري، فخرج مئات الآلاف في مسيرات احتجاجية تحت شعار: “تحوير الحقائق، لا .. للرشوة، لا .. لا للفكر الكاذب”!

فتغيّر نظام الحكم في أوكرانيا مائة وثمانين درجة دون أن تُسكب قطرة دم، أو يُخدش جدار بل في مهرجانات صخب وفرح راقصة، ولكن بتمويل سخي بملايين (الدولارات) من الخارج لتنتقل من معسكر الشرق إلى معسكر الغرب، وعندما سُئل “يوشينكو”: “هل ستقدّم استقالتك إذا لم تحقّق ما وعدت الناس به خلال عام”، ردّ قائلاً: “لن أستقيل من منصبي لأني سأفي بكافة الوعود وكل ما أتفوّه به سيكون حقيقة”، ولم يفعل طبعاً .. ولعلّه لهذا السبب أُخرج من الجولة الأولى للانتخابات الأوكرانية في يناير الفائت بعد أن حصل على ستة في المائة من أصوات الناخبين فقط! ما يعني أنّ ملايين الناس ممّن صوّتوا ضدّه استطاعوا أن يخرجوا من برمجة “الثورة البرتقالية” في أقل من خمس سنوات، ودون الحاجة إلى السفر عبر الزمن بل بقراءة واعية للواقع، وشجاعة للاعتراف بخطأ الحسابات السابقة، وإرادة لتغيير المستقبل.

الثورات المخملية الملوّنة – ولكن ليس بلون الدم – لا مجال لتجربتها في الأنظمة الاستبدادية لانعدام أية فرصة للتداول السلمي للسلطة نتيجة لوجود مرشّح واحد سيفوز بالوراثة أو بأغلبية ساحقة فيها، ولكن هذا لا يمنع الاستفادة منها لتحذير الشعوب من الانخداع بالشعارات الرنّانة التي تريد أن تخرجهم من نظام سلطوي حاكم إلى آخر ديكتاتوري معارض.

ومع تراكم الخبرات العالمية والإقليمية الموثّقة والمتنوعة في زمان باتت جُلّ المعلومات في متناول الباحث عنها، وأخطر الأسرار تُكشف عند أوّل بادرة خلاف بين المتحالفين، أو نزاع على سلطة بين المتشاكسين فإن المسافة للمتنقّلين في “آلة الزمن” (المعرفي) تُختصر ليغدوا – إن شاءوا – دواوين علوم السابقين، فلا مجال بعد ذلك للتعلّل بعدم القدرة على صناعة المستقبل وتحديد معالمه ووجهته لمن يريد، ولكن لابد من بذل الجهد لقراءة التاريخ والواقع بموضوعية مادمنا خارج دائرة العنف، فهناك دماء تراق وفتن تضطرم في العالم من حولنا فإن لم نكشف خططهم، لنمسك بخيوط مستقبلنا، فسندفع الثمن مضاعفاً؛ ثمن الجهل، واللامبالاة.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة