لست من هواة مشاهدة التلفاز، ورغم ذلك ففي شهر رمضان دون غيره من الشهور يزداد عبث إصبعي بجهاز التحكم عن بعد في التلفاز بحثاً عن برنامج أو فيلم أو ربما محاضرة أسمع منها جديدا متجددا، فأمرّ على القنوات الدينية المهجورة بالنسبة لي طوال العام، وأمكث مع كل منها برهة من الزمن لعلّ بعضاً مما يُبث منها يخترق طبلة أذني ليقرع قلبي، أو يستثير تفكيري فيتسمّر عنده عقلي سائلاً أو مجيباً، ولكن لا شيء من ذلك يحصل، فكثيرٌ مما يُبثّ من تلك القنوات قديم بحلّة جديدة، أو فاقد للأصالة ومحاولة لتقليد الناجح وربما (الأكثر مبيعاً) من البرامج الأجنبية(!) دون الأخذ بالاعتبار – مثلاً – الفرق بين (فيديو كليب) لعاشقَين إنسيَين يحلو لمخرجه أن يظهرهما في أي صورة شاء، وآخر لمن يناجي ربّه، فينسى مخرجو الإصدارات الدينية إن عشق الله ومحبّته ليس آهات، وحسرات، وزفرات، وهيام في الفلوات، وإخراجه بهذه الصورة يزري بتلك العلاقة الروحانية السامية ويقزّمها في نُطُق غير قابلة للعيش والإقبال.
وأما بعض الخطباء، أو أكثرهم، فلا يخلو خطابهم من ألفاظ (يجب)، و(ينبغي)، و(يُفترض)، و(حرام)، و(مكروه)، و(ممنوع)، ما قد يمجّ منه المشاهد والسامع وينفّره، وخاصة الشباب الذين لا يستسيغون كثرة الوعظ، ويفضّلون من يخاطب عقولهم ووجدانهم على من يلقّنهم أو يحاول أن يملي عليهم، كما لا تكاد المواضيع التي تُطرح تختلف عمّا سلف، فهم بذلك يذكّروني بمواضيع (التعبير) التي كنا نكتبها في المدرسة كل عام، فكان من القضاء المحتوم علينا سنوياً – أن نكتب موضوعاً عن “كيف قضيت إجازة الصيف”، وكل ربيع علينا أن نكتب موضوعاً عنوانه “أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً”، وفي عيد الأم لابدّ أن نكتب في “الأم مدرسة إذا أعددتها”، وهكذا، حتى لم نعد نسمع من خطباء الفضائيات إلاّ كلاماً مكروراً في كل مناسبة.
وفي كثير من الأحيان يتشابه بعض الخطباء المنتسبون لمدرسة فقهية ما حتى في نبرة الصوت، ودرجة البطء والسرعة في الكلام، ومواقع التوقّف والاسترسال، وتكاد حركات اليد والوجه أو ما يسمى اليوم بلغة الجسد تكون على نفس المنوال يتوارثونه أباً وعمّاً وخالاً عن جدّ، فلا يقع الاختلاف البيّن إلا عند ضرب الأمثلة والاستشهاد بالرموز والشخصيات القيادية كالصحابة (رض) والأئمة (ع)، فيكتفي خطيب كل طائفة، بل وكل فئة بذكر محاسن من ينتمي إليهم فقط، ولا تخرج أمثلته عن نطاق من تؤيده (جماعته) أو (طائفته)، وقد لا يكون ذلك دائماً عن قصد وإنما لأن كلاًّ منهم يعبّر عن مخزونه الثقافي الحصريّ/المحدود، فطُمست ثقافة مشتركة وصحيحة ومطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وغُيّبت عن كلّ الأطراف مساحة من التنوّع المثري لكل المسلمين.
كثر انتقاد فضائيات الخلاعة والخسة، ومسلسلات التفاهة والسفاهة، وبرامج الدعاية والإلهاء، وقد لا يرى البعض أنه من المناسب الآن أن ننتقد الفضائيات الدينية التي يراد لها أن تكون بدائل عن تلك لعلّها تجتذب الشباب وتصرفهم عن الفساد المبثوث من الجوّ والبر والبحر، ولكن يبدو أن الفضائيات الدينية لا ترى الوحدة الإسلامية من أولوياتها، فلم نلاحظ أن أيّاً منها استثمر مناسبة عظيمة كشهر رمضان المبارك، للتركيز على القيم والمبادئ المشتركة، بل واصلت في تعميق الخصوصية المذهبية لدى مشاهديها.
بل يبدو أن بعض الفضائيات الدينية لم تستوعب بعد ما يجسّده رمضان كما استوعبته الكاتبة الفرنسية المسلمة (إيرين ريكاد) في كتابها “إذا حُكي لي رمضان” الذي يحتوي على ثلاثين حكاية من مختلف أنحاء العالم تفسّر للأطفال أسباب صوم المسلمين وفوائده، وتعتمد الحكايات على الجانب التعليمي لأبجديات الصوم كما ينفتح على عبادات ومفاهيم أخرى مرافقة لشهر رمضان.
تقول الكاتبة في مقدمة الكتاب “إن الطفل سيكتشف في كل يوم حكاية مليئة بالقيم الأخلاقية التي تتعلق بشهر رمضان ومن خلال الحديث عن رمضان سيبرز البعد الإنساني للإسلام”، ورغم أنها تنطلق في أكثر الأحيان من الواقع الفرنسي لرواية حكايات رمضان للأطفال إلا أنها تنفتح في الكثير من القصص الأخرى على حكايات من مختلف بلاد العالم من فرانكفورت، إلى الجزائر، إلى مكة، وقد أعلنت الكاتبة فهمها لعبادة الصوم على لسان أم حسان في الأقصوصة الأولى: “إن الصوم يا بني يجسّم وحدة هذه الأمة في العالم أجمع”.
فإلى أن توجّه الفضائيات الدينية بوصلتها الوجهة الصحيحة فلا بأس بأن أعود أدراجي وأستمر في مشاهدة (الجزيرة نت) التي كما قال عنها أحد ضيوف برنامج الاتجاه المعاكس أنها أكثر إسلامية من جميع الفضائيات الدينية والإسلامية لأنها تطرح قضايا الأمة المصيرية.