لا أدري على أيهما أنا أشفق، أعلى الناس من القرآن؟ أم على القرآن من الناس؟ الناس المحبة لله ولكتابه والمصدّقة لأحاديث رسوله (ص) في فضل قراءة القرآن الكريم وخاصة في شهر رمضان (ربيع القرآن)، أشفق على أولئك الذين انشغل جُلّهم بكثرة القراءة عن فهم آياته والعمل بها، وتسابقوا في زيادة عدد (الختمات) القرآنية في الشهر الكريم، فغفلوا عن مجموعة كبيرة من الروايات التي تلوم قارئ القرآن الذي يعمل بنقيض تعاليم آياته، كما في الحديث الشريف “كم من تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه”، فيلعن الظالم نفسه حين يقرأ: “ألا لعنة الله على الظالمين”، وهو لا يعلم، ويتوعّدها بالمقت وهو يقرأ “كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، وقلبه ساهٍ، وهو مشغول بالتلحين، وضبط الكلمات، وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة.
أأشفق على هؤلاء، أم أشفق على القرآن الذي اتّخذه الناس مهجوراً، “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً”، ليس الهجر بقلة القراءة والترتيل بل بسوء الفهم، والاستظهار، وتعطيل العمل بما جاء فيه من أخلاق تهذّبه وتؤهّله لسيادة نفسه أولاً، وريادة العالم نحو الصلاح والإصلاح، تالياً، فشُجّع على قراءة القرآن بكثرة، ولكن لم يُحذَّر بأنه لا ينبغي لحامل القرآن أن يلهو أو يلغو أو يسهو، ولا ينبغي له أن يكون جافياً، ولا ممارياً، ولا صيّاحاً، ولا صخّاباً، فيُقرأ كتاب القيم والأخلاق الإنسانية (القرآن) ويُخالَف، ثم يُشتم ويُتّهم لأنه دستور المسلمين (كما يُدّعى).
غاب وعي الأمة التي تخلّقت بخلق القرآن في عهد رسول الله (ص) حين كان أبسط الناس يفهم القرآن بدقة وعمق أكثر من بعض مفسري ومشايخ اليوم، فكان إذا أتبع القارئ خطأ قوله تعالى: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ” بقول: “وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” استنكر عليه السامع لعدم موافقة قطع اليد مع الرحمة والمغفرة، وصوّب قراءته بـ”وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأكثر منطقية وصحة، أما اليوم لا يجرؤ أحد أن يبدي رأياً في قبال آراء المفسرين مهما كان خطأ أو مخالفاً للمنطق، لأنّ فهم القرآن أصبح حكراً على فئة دون فئة.
كما عزّ اليوم أولئك الذين يكتفون من القرآن بآية تبصّرهم وتفقهّهم في الحياة، حيث امتدح رسول الله (ص) أحدهم حين جاءه ليتعلم منه القرآن فلما انتهى إلى قوله تعالى: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ”، قال: يكفي هذا، وانصرف، فقال رسول الله (ص): انصرف الرجل وهو فقيه. عزّ من يقرأ القرآن ليفقهه ويعمل به، بينما أشبعت كتب التفسير شرحاً وتفصيلاً وتعقيداً في فقه المعاملات والعبادات، يقول الشيخ محمد الغزالي “أنا لا أعرف اُمّة أطالت الوقت في الفروع الفقهية كاُمّتنا، الوضوء مثلاً، يمكن أن يُتعلم في دقيقتين، فما الذي يجعل فيه مئات الصفحات والكتب، بل المجلدات، وتختلف المذاهب فيه؟ هذا شيء عجب”.
ولا يكاد أحد يخالف حكم المفسرين للآية الكريمة “لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ” بعدم لمس ظاهر جلد المصحف وكلمات القرآن الكريم إلا إذا كان متطهراً، ولكن ندر من وقف ليتأمل معنى أن باطن معنى آيات الله محجوب عن القلب إذا لم يكن متطهراً عن الخبائث، ولا يعلم إلاّ الله وحده كم من الناس قام فعلاً بتطهير قلبه من الخبائث لأجل أن يؤهله لاستقبال أنوار المعارف الإلهية.
قال بعض القراء: “قرأت القرآن على شيخ لي، ثم رجعت لأقرأ عليه ثانياً، فانتهرني وقال: جعلت القرآن علي عملاً، اذهب فاقرأ على الله سبحانه فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك”، فهل يفعل مثل ذلك مشايخ اليوم؟ وهلاّ فكروا في تنقية المجتمع مما أُدخل عليه من (بدع) تُسيء للقرآن وتبعد قرّاءه عن روحه وصفاء تعاليمه، من أمثال التقليعة الجديدة التي انتشرت كثيراً في السنوات الأخيرة بما يسمّى بـ(ختم السورة الفلانية) حيث يُخالَف القرآن نهاراً جهاراً في هذه المجالس من تبذير لنعم الله، وبذخ وإسراف، باسم القرآن وباسم القربة إلى الله، إنّهم يستطيعون التغيير، وشهر الله فرصتهم لإحياء روح القرآن الحقيقية، ولو بتقديم نصيحة لوجه الله بترك المظاهر الزائفة والممارسات التعويضيّة المصطنعة، وعدم الخوف على فقدان المريدين جرّاء قول كلمة الحقّ وبثّها والتناصح بها.