اللامذهبية أم التقريب؟

منذ قرن أو يزيد ومخلصون من الأمة يسعون للتقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية، خاصة بين الشيعة والسنة الفرقتان اللتان تمثلان المحورين النشطين في ثقافة وفقه الإسلام منذ زمن، غير أن هناك طرح آخر لعله الأولى والأنفع ، وهو أن نعيد طرح الدين كله طرحا لا مذهبيا، حيث لم تكن المذاهب والفرق إلا ثمرات تاريخ المسلمين، وحيث كان الدين قد كمل في عهد الرسول وارتضاه الله دينا للناس، ولم يكن يومها تشيع ولا تسنن ولا غيرهما.

فما هو المقصود بالطرح اللامذهبي ؟ وما هو الفارق بينه وبين التقريب بين المذاهب ؟

الفارق بين المشروعين أن اللامذهبية تأتي من خارج المذاهب، و التقريب يأتي من داخلها ، فيحافظ عليها، ويفكر من خلالها، ويبني علاقاته مع الآخر على أساس من هويتها، ثم يحاول البحث عن المتفق والمتقارب بينها، و يطلب من أتباع كل مذهب أن يعذروا بعضهم فيما اختلفوا فيه، وأن يتعايشوا بسلام، كل طرف منهم يقبل الآخر برأيه ومذهبه، تاركين كل ما يسبب النفرة وشق الصف بينهم، متعاونين في توحيد صفوفهم نحو القضايا الكبرى للأمة.

إن التقريب بين المذاهب هوأشبه بإقامة علاقات سلام بين جيران، أو التوحد على برنامج عمل مشترك بين أحزاب أو دول، وهو أمر جيد ومهم في آن، فينبغي المضي فيه واستثمار نتائجه مهما قلت ومهما كلف الأمر.

ولكنه لن ينه المشكلة إذ سيظل العقل والفكر وما يتبعه من سلوك، محكومين بقوالب خاصة، هذا إذا أمكننا فعلا أن نزيل من مذاهبنا ما ترسخ فيها عبر أكثر من ألف عام من استمراء تضليل الآخر وتفسيقه، ونحت النعوت السيئة له، وسباب أشخاصه ومتابعيه، والتي أصبحت دينا فوق الدين، لا يأمن العاقل المطالب بإزالتها وببطلانها؛ أن تثور في وجهه الأتباع والمتبوعين، من مشايخ ومن عوام.

تلك الرواسخ التي ما لم يُتبرأ منها فلن يكون للتقريب معنى ولا إمكان، إذ كيف أتقارب معك وأنت تسب مقدراتي وتلعنني فوق منابرك وفي محافلك ومطبوعاتك؟ تهمة يتهم بها كل طرف الآخر، فيما يمارسها من كل طرف كثيرون! هذا مخالف لاستحقاق التقريب، وهو الأمر الذي أفسد على المصلحين الساعين للتقريب جل مساعيهم.

التقريب مشروع للتعامل مع سلبيات الحاضر التي بدأت في الماضي، واللامذهبية مشروع للنجاح في متطلبات المستقبل الذي بدأ في الحاضر.

الطرح اللامذهبي يأتي من خارج الالتزام بالمسلمات المذهبية، إنه يتطلب منا عدم اعتبار أن الحق غير القابل لإعادة النظر هو ما قاله علماء مذهبنا، وأن الخطأ هو ما خالفهم الآخرون فيه، والعمل ابتداءً ومن جديد على تحرير العقل من المسلمات المذهبية، والقبول بإعادة النقاش فيها وسماع آراء الآخرين حولها، بل ترك مالم يعد منها موضع ابتلاء زماننا وهو أكثرها .

ثم الحرص على عدم الوقوع في التمذهب من جديد، وذلك بالحفاظ على حرية التفكير، وعدم الجمود على الموالاة للقناعة الأولى، حتى لو نشأت من تفكير علمي، فسلامة النشأة لا تعني أبدية الفكرة، بل الاستمرار في التمسك بحرية التفكير والنقد، ليظل الفكر يتجدد على الدوام، مع نزع الشعور بالألفة والأمان النفسي بصحة ما اعتدنا عليه مذهبياً، والابتعاد عن الوحشة النفسية فيما يقابله، بل علينا أن نقيم العقل والعمل على ما نرى صحته، غير مبالين بمن وافق أو خالف.

وعلينا الابتعاد عن تقديس الرجال والكتب والمؤلفات وسائر التراث المتشبع بالعصبية المذهبية، مع احترام شخوصهم، ومراعاة ظروفهم، فمن الضروري تحرير النفس من التراث بالنظر إليه نظرة محايدة، مع تحرير أنفسنا من ظروفهم وقضاياهم التي لم تعد قضايانا، إما لزوال مسبباتها أو لتعدي الزمان لها.

كما ينبغي عدم إعطاء الأمور الخلافية الصغيرة أكثر من وزنها، فالعلاقة بين الإنسان مع الله – وهي أساس الدين- لا تعتمد على صحة الجزئيات، من مثل كيفية الركوع والسجود، ووقت الصلاة ، وغسلات الوضوء ومسحاته، وما إلى ذلك من الجزئيات، والتركيز على الهدف الأكبر للدين وهو عمل الصالحات مع الإيمان، والاتصاف بالصفات الإنسانية المثيلة لمثالها من أسماء الله الحسنى، التي هي برنامج عمل المكلفين قبل كل شيء.

ينبغي عدم تحميل أجيال الأمة تبعات مواقف أوليائها، فإنما يحاسبون على ما عملوه لا على ما عمله أولياؤهم، حتى لو تولوهم بسبب بلاء التمذهب، ذلك أن كل جيل من الأمة إنما اتبع أسلافه على تصور إحسانهم لا إساءتهم، فالقائل بحسن معاوية مثلا، إنما هو يظنه محسنا لأنه فعل كيت وكيت، وهو إما لا يعلم أو لا يصدق أنه كان يعمل كذا وكذا من الظلم، فهو لا يتبنى ظلمه، ولو علمه ظالما لما أحبه، وإنما لما بلغه من إحسانه، وإن كان غير صحيح في نفسه، وكذلك القائل بظلم معاوية، لا ينكر منه إلا ما بلغه عنه من الظلم، ولو علمه محسنا لما أبغضه، فلا خلاف في القاعدة الأخلاقية، وإنما في مصاديقها، وبدلا من الجدل في ذلك بغير إحسان، ينبغي التركيز على محاولة الخروج من هذه المذهبيات والعصبيات التي فات زمانها، والتمسك بقوله تعالى: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم “

اللامذهبية تقتضي عدم الدعوة إلى التشيع أو التسنن، أو اعتبار أن واحدا منهما هو الدين نفسه، فالإسلام فوقهما، ويمكن للإنسان أن يكون مسلما لا شيعيا ولا سنيا ولا غيرهما من المذاهب، كما تقتضي ترك الإدعاء بالفرقة الناجية، وأن ما نحن عليه هو الدين كله، وما عند سوانا هو البدع، فلا زالت كلمة الإمام الشافعي ذهبية في الاختلاف” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب”، فليس من فرق ومذاهب المسلمين الباقية من أراد الباطل فأدركه، وإنما أراد الحق أو وجها منه، فأصاب أو/ و أخطأ.

واللامذهبية تقتضي عدم بقاء مسائل خلافية نسقية متوارثة، يورثها السابقون للاحقين، فكل قضية يمكن أن يتفق عليها أو يختلف فيها علماء مختلفون، لتتكون شبكة غير نسقية من الموافقات والمعارضات، فهذا هو طبع الفكر العلمي الحر، أما أن تجمع فرقة على صواب مسألة في الدين ، فيما تجمع غيرها على بطلانها، ويستمر هذا جيلا بعد جيل، فلا تفسير له إلا انعدام الحرية الفكرية، وضمور الفكر العلمي الحر فيهم.

وينبغي عدم الخوض في مسألة الخلافة والسقيفة كقضيتين أساسيتين في الدين، فقد ذهبت الخلافة بوجهيها الراشدة والمعصومة منذ معاوية، ولم تذهب نارها بين المسلمين، مما سمح لعائلات محدودة أن تتولي القيادة فوق إرادة الأمة طوال تاريخ المسلمين الممتد من الدولة الأموية حتى سائر الدول الأخرى قبل الاستعمار، حتى صار الأمر وكأنه سنة الحكم في الإسلام، وعدنا بلا خليفة راشد ولا خليفة معصوم، ولكن دون أن نفيق من سكرة الخلاف ألفا وثلاثمائة عام.

ينبغي علينا في اللامذهبية التفريق بين تاريخين أحدهما أهم من الآخر، تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، فتاريخ الإسلام يبدأ مع البعثة النبوية وينتهي بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله، وتاريخ المسلمين هو ما بعد هذه الحقبة، التاريخ الأول نعرف أكثر صوابه وخطأه، حيث كان القرآن يتنزل بالثناء والشكر، والعتاب واللوم، في كل موقف مهم، وحيث كان الرسول (ص) يبين في كل موقف ما ينبغي وما لا ينبغي، فما جرى في هذه المدة هو تاريخ الإسلام، وأما ما بعده، فلا نملك حكما قطعيا على مواقف أهله، فما كان مبايناً لقيم الدين ومقاصده نرفضه، بغض النظر عن صاحبه، وما كان موافقا لقيم الدين ومقاصده نقبله، بغض النظر عن صاحبه، وما كان غير ظاهر في أي منهما فهو رأي يقبل أو يرفض ، ولكن مع الابتعاد كليا عن تكفير المسلم ، ما دام هو يشهد الشهادتين ويعرف نفسه بهوية الإسلام.

الحق أنه لا توجد فرقة من المسلمين تملك الصواب كله، ولا مذهب دون سواه، فبعد كل هذه الدهور من العصبية المذهبية، تناثر الحق واختلط بسواه هنا وهناك، ما قل منه وما كثر، فهناك قول أصح من غيره في كل مذهب وعند كل فرقة، هذا إذا لم نقل بأن هناك جزئيات من الحق توزعت هنا وهناك، وليس إلى جمعها اليوم من سبيل، فلا سبيل اليوم إلا بالإعذار أولا وبالتجديد ثانيا، فالتجديد وتكوين نظرة أخرى من زمن آخر للدين هو ضرورة ملحة، وإلا فإن إسلام المسلمين سيزداد بعدا عن العصر، وسيزداد اصطداما مع العلم، وستتصدع عقيدة الناس به كما تصدعت عقائد أمم أخرى.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة