عذاري فوا أسفًا على عذاري، أتذكر عندما كنا صغارًا كنا نذهب للسباحة فيها، نتسابق أيّنا يستطيع الوصول إلى النبع ولمسه بيديه، فلا يستطيع أن يصل إليه إلا السبّاح الماهر لعمق العين أوّلا ولقوة دفع الماء ثانيًا. كان مجرى عين عذاري طويل وبعرض عشرة أقدام ثم يتشعب إلى قنوات توصل مياه العين إلى القرى الشماليّة والغربية والشرقيّة من العين، فأين ذهبت عذاري؟
وكانت عين قصاري مثل عذاري سعة وعمقًا وتدفقًا وكان لها مجاري تدفع بمياهها إلى بساتين القرى المحيطة بها، وكان لكل قرية يوم ولا زلت أتذكر أن ماءها يصل إلى قريتنا على شارع البديع يوم الأربعاء فأين ذهبت قصاري ؟
زرت جزيرة النبيه صالح صغيرًا يوم كانت جزيرة وكان الوصول إليها بالقوارب والسفن فوجدت حول شواطئها ثروة سمكيّة كبيرة عرفت ذلك عيانًا من شباك الصيادين ورأيت بها ثلاث عيون نابعة متدفقة مثل عين عذاري وإن كانت أصغر منها مساحة، ووجدت نخيلها قويّة لا تكاد يدا الرجل أن تلتقيا إذا ما حاول تطويق واحدة منها، فأين ذهبت هذه العيون وأين ذهبت بساتين النخيل والثروة السمكيّة؟ لم يبقَ منها إلا أثر بعد عين.
وعين الرحى بسترة وما أدراك ما عين الرحى كعذاري وقصاري وعيون النبيه صالح نضارة وعمقًا وتدفقًا فأين ذهبت؟
والعجيب أن مياه هذه العيون عذب فما كان أهل البحرين يشربون ماءًا مقطرًا. كانت قرى شارع البديع مندسة بين البساتين، وفي كل بستان عين تسقى الزرع والضرع وينقل منها النّاس حاجتهم من الماء إلى بيوتهم وإلى حيث يشاءون، فأين ذهبت هذه البساتين وأين ذهبت هذه العيون؟
كل شيء قد انتهى، العيون نضبت، والبساتين اجتثت لتبنى مجمعات سكنية وبيوتًا فارهة، وما بقي منها فأملاك خاصّة لقضاء ليالي الأنس، وصارت البحرين تشرب ماء مقطرًا، وتسقى ما بقى من مزارع بماء معالج من فضلات المجاري؟
يا حسرة على عيون البحرين ومزارعها وثروتها الحيوانيّة والسمكيّة، كلّ شيء أصبح ذكريات تؤرق من يذكرها.
أوقفتم أيّها النّاس لتسألوا لِم جفت عيون البحرين العذبة، ولِم استحال ماؤها مالحًا؟ ولِم ماتت البساتين؟
لكي تعرفوا ذلك فعليكم أن تعلموا كيف يأتي الماء إلى جزيرتنا الوادعة البحرين. يأتي عبر طبقة صخريّة ممتدة تحت الخليج متصلة بالطبقة الصخريّة بالجزيرة العربيّة وإيران، عبر هذه الطبقة الصخريّة يأتي الماء، فعندما بدأت عمليات الحفر غير المدروس وغير المخطط ضربت الحفارات هذه الطبقة الصخريّة فدمرتها فأصبحت المياه العذبة تصب في البحر، ثمَّ دخلت المياه المالحة على المياه الجوفية العذبة فأفسدتها فأصبح ماء البحرين مالحًا. فمنذ حفر ميناء سلمان وتدمير الطبقة الصخريّة مستمر إلى اليوم، أما كان بإمكان الدولة أن تدفن البحر برمال البرّ لتحافظ على الثروة المائيّة والسمكيّة التي لا تقدر بثمن، فكم تدفع البلاد اليوم من أموال على تحلية المياه؟ ولكن هكذا تفعل السياسات غير المخططة بالبلاد، يعمي الإنسان عينيه بيديه.
والسبب الآخر لنضوب العيون، أنَّ عيون البحرين وآبارها نابعة، يتجمع الماء في الآبار ثم يسحب منها إما بالدلاء أو “بالجذابات” فكانت “الجذابات” تسحب الماء المتجمع في البئر، فما الذي يحدث الآن؟ الآن الآبار ارتوازيّة والماء يشفط من الأرض شفطًا فيسحب معه الهواء الذي يرفع الماء من الأعماق إلى الأعلى، فكلما قلَّ الهواء الدافع غار الماء، وهكذا فكلمّا استمرت هذه الطرق الجائرة غار الماء وتطلب الحصول عليه الحفر إلى عمق أكبر، فبعد أن كانت المياه العذبة تقع على عمق عشرات الأمتار، أصبحت تقع على عمق عظيم.
واليوم بعد أن دمرنا المياه، جئنا لندمر الثروة السمكيّة بكل همّة ، فالحفارات في كل سواحل البحرين تدمر بلا رحمة “الفشوت”، مثل فشت الجارم وفشت العظم وغيرهما من أجل بناء جزر سياحيّة وقصور فارهة للبيع لكل من هبّ ودب. فهل هذه سياسة إعمار أم سياسة تدمير فهل يصدق على البحرين يومًا بعد أن ينفذ ماؤها، وتفنى ثروتها السمكيّة وتمسي صحراء مقفرة قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
بالأمس أثناء الحرب العالميّة الثانيّة عاش أهل البحرين معتمدين على غلتهم الأساسيّة التمر والدبس والأسماك ولحم الحيوانات التي تربى محليًا، وعلى مياه عيونهم العذبة، فماذا لو حدثت أزمة دوليّة وتقطعت سبل الاتصال البريّة والبحريّة والجويّة وأصبحت كل دولة مشغولة بنفسها فماذا سنأكل بعد أن دمرت بساتين النخيل، وأصبحت النخلة للزينة في الشوارع، ودمرت الثروة السمكيّة بالحفارات أو بالصيد الجائر، وأصبحنا نستورد حتّى الخضروات، ونشرب ماءً مقطرًا. فكروا يا ناس قبل فوات الأوان، وإلا فستعضون أصابع الندم على هذا الفساد الذي يلحق بالبيئة.