تسيير موكب عزاء أو قافلة نصرة

ووضعت معركة كربلاء أوزارها، وما وضعت معاركنا ضد الباطل – مذ ذاك – بعدُ أوزارها، ولن تضع .. حتى يرجع الحق – كل الحق – إلى أهله، وإلاّ فالساكت عن ضياع حقوق المظلومين شريك في دم الحسين، أَلبس السواد أو لم يلبس، حضر العزاء وشارك فيه أو لم، لطمَ وطبّر وأدمى نفسه أو لم يفعل، فالولاء لنهج الحسين وما يرمز له من تضحية وعطاء وعزّة وإباء أكثر من مجرد طقوس تقليدية .. الولاء للحسين (ع) ثقافة تُترجم إلى أقوال وأفعال في كل آن ومكان لتصدق المقولة الشهيرة “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”، وكما نَصَرَ الحسين – الثائر على الظلم – كلٌّ من المسيحي والمسلم، والعبد والحر، والأبيض والأسود، والشيخ والطفل، والمرأة والرجل، فكلُ مدافعٍ عن حقوق الناس من المظلومين والمستضعفين من أي ملّة أو مذهب في أي زمان ومكان فهو نصير للحسين (ع).

تزاحمت مناسبات مهمة عدّة قد تبدو للوهلة الأولى أنها متشاكسة ما قد يسبب حرجاً للبعض في التوفيق والجمع بين مشاعر الفرح والحزن في آن واحد، فيحار بين أن يهنّئ إخوته المسيحيين في مولد النبي عيسى (ع)، أو يشارك المسلمين في عزائهم بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، ويُشبَّه عليه الأمر فيرى نفسه – لسوء تقدير منه – متلوّناً بين ذا وذاك، مع أنّ القدرة على التمييز والفصل بين المشاعر لئلاً تختلط، وإعطاء كل ذي حقّ حقه، بحدّ ذاتها مكنة لا تتأتّى إلا لمن استطاع أن يتحكّم بمشاعره ويقدّر أهمية البعد العاطفي في علاقته مع الآخرين، فيقدّم الآخر – في حزنه وفرحه – على نفسه، كما فعل الحسين (ع) قبل استشهاده في ملحمة كربلاء، وواصلت مسيره الحوراء زينب (ع) بعده، حيث كانت تتجلّد لتلملم جراح أطفال كربلاء مرّة، ثم تقف لتزأر في مجلس ابن زياد وتزلزل أركان ملك يزيد لتردّ عليه بكل عزّة ويقين “ما رأيت إلاّ جميلاً”، فجمعت بين الصراحة، وقوة البيان، ورباطة الجأش أمام العدوّ الغشوم، وبين عاطفة الأمومة وحنان الأخوة لتلمّ شمل اليتامى وتعيد لهم الأمان الذي كانوا يفتقدونه، فهذا نهج لو نتعلّمه.

كما يتزامن مع ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) هذا العام، مرور عام على العدوان الصهيوني على غزة، وانطلاق قوافل (نصرة) أهل غزة وكسر الحصار عنها كقافلة “شريان الحياة” بقيادة جورج غالاوي التي يرافقها نحو خمسمائة شخصية من ثمانية عشر دولة، و”مسيرة الإنسانية” التابعة للحركة العالمية لمناهضة العولمة والهيمنة الأمريكية والصهيونية، وإعلان أسبوع غزة التضامني ويومها العالمي في أكثر من مئة دولة.

ثمّة تشابه في المبدأ – بالنظر إلى روح العمل وقيمته – بين من (نصر) الحسين في محنته في كربلاء حين حوصر (ع) في الصحراء وقُطع الماء عن أنصارِه وأهل بيته، وبين هذه القوافل التي عبرت الحدود الجغرافية وتجاوزتها رغم الصعوبات، وجمعت جنسيات، وشخصيات، وديانات، ومذاهب مختلفة متحدّية التحالف الآثم بين قوى الشرّ العالمية والإقليمية لخنق حركات المقاومة، وكذا بينهم وبين المنظمات الحقوقية المدافعة عن حقوق المظلومين في العالم التي تتجشّم عناء المواجهة والتضييق والتعسير والمنع في سبيل نصرة مظلوم أو إرجاع حقّ ضائع، ولا أظن أنّ تسيير موكب عزاء ولطم هو أفرحُ لقلب الحسين (ع) من تسيير قافلة لكسر الحصار عن شعب أعزل.

كما أنّ ثمّة تنافراً بين أبناء أمتنا ومُحاولات برمجتها على الخضوع لهيمنة الأعداء بفرض واقع الاستسلام عليها سواءً بسياسات تغريبيّة غير مدروسة، أو بتصريحات غير مسئولة، ونموذجها ما أُطلق مؤخراً بأنّ التواجد الأجنبي قائمٌ منذ خمسة قرون وأنّه قد يستمر خمسة قرون مقبلة، مبشّراً أنه لا يعتبر التواجد الأجنبي انتقاصاً للأمة بأيّ شكل لأنّ مفهوم السيادة (فيما يرى) يختلف اليوم عنه قبل خمسمائة سنة مضت، ممّا قد يُعَدّ ترويجاً بذلك لعهد احتلال مديد وانتقاص لسيادة أوطاننا!

يظنّ البعض أنه لأجل أن يتضامن مع مَن فقد عزيزاً، يتوجّب عليه أن يتشّح بالسواد ويرسم الحزن على تقاطيع وجهه، ويلتزم الصمت طالما هو بحضرة هذا المكلوم، لئلاً يسيء لمشاعره إن هو فتح باب الدردشة والحوار، أو سرد قصة أو طرفة، مع أنّ الهدف من زيارة أهل العزاء هو (تسليتهم) وانتشالهم ممّا هم فيه من حزن ولا يكون ذلك بتصنّعه مزيداً منه، بل بتفتيح أمل، أو بثّ نفحة عزّ وعنفوان قوّة، أو بمحاولة إضفاء ابتسامة على شفتي المحزون لعلّها تزيح شيئاً من الثقل الجاثم على صدره، ولكن يبدو أنّ قاعدة “إنا وجدنا آباءنا …” سارية المفعول في كل المجالات، بينما نقرأ تسليةً عزائيّة مفعمةً بمعاني العزّ والأمل في الحسين (ع) حيث يقول الشاعر الجواهري: فما أبصرتُ مبدعاً كالحسين يخطّ الحياةَ بلا إصبع! ولا عاشقاً كأبي فاضـــلٍ يجيد العناق بلا أذرع! ولا بطلاً مثلما عابـــس يهشّ إذا سار للمصرع! هنا العبقرية تُلقي العنــان وتهبط من برجها الأرفع!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة