المشهد الأول: صبية يمرحون في حلقة حول متخلّف ( مختل ) عقليّا, هذا يسحب ثوبه، وهذا يرميه بما في يده، وذاك يركض هارباً من الرمل الذي أخذ المسكين قبضة منه ليرميه بها بينما الأصوات تتعالى وتختلط ضحكاتهم بصراخه وبكائه.
المشهد الثاني: نفس المشهد الأول مع استبدال الصبية بمجموعة من الكبار!! وبالطبع تكون الإثارة أكثر حيث المرح والإيذاء أكثر اختلاطاً وتفنّناً, والأصوات أعلى والضحكات أقوى وصراخ ذلك المسكين وبكاءه أشد لأنه على علّته يعلم الفرق بين هؤلاء وهؤلاء.
عندما يمر أيّ عاقل منّا بالمشهد الأول يأبى إلا أن ينهر الصبية ويزجرهم, فينتهرون ويزدجرون ولا يلبث وأن يرى أثر فعلته في بريق شكر في عينيّ ذلك المسكين أبلغ من آلاف الكلمات. أما عندما يمر بالمشهد الثاني فما عساه أن يفعل؟ فأمام هذه الوقاحة والألم يعتصر قلبه فإما أن يواجه هؤلاء ويدخل في معركة معهم ويخسرها لأنهم الأكثر والأصرخ والأفوه ويُحوّل إلى لعبة من لعبهم لا فرق بينه وبين ذلك المختل, أو يسكت وفي الحلق شجى وفي العين قذى ويحيا بتأنيب الضمير وألم العجز عن التغيير. تصوّر .. تصوّر حاله كيف يكون وقد علم أن المختل المفترض ليس بمختل ولكنه أبكم وهو يتوسّل من حوله بنظرات يأسٍ: إنني مثلكم, أعقل ما تفعلون!! إنني لست مجنوناً !!! لديّ مشاعر مثلما لديكم, أرجوكم، أرجوكم, كفى, كفى، كفى. ولكنهم يستمرون في لعبهم ولا يسمعون.
المشهد الحقيقي: نفس المشهد الثاني, ولكن الكبار هنا هم كبراء القوم وعقلاءها, إنهم متكلمو القوم وكتّابها، إنهم طليعة الفكر والأمل المفترض للتغيير، إنها الصحافة والأقلام الصحفية؛ كما أن المختل في نظرهم ليس إلا القرّاء الصابرين على استهزاء الكتّاب بعقولهم، واستهتارهم بثقافتهم.
فهل يعرف الكتاب رسالتهم التي هي جلاء الحقيقة، أم يستمرون في إثارة الغبار والبحث عن الإثارة والاستمتاع بتخدير العقول وكسب ما في الجيوب؟ هلاّ ينزلون من أبراجهم إلى الناس ويعبّروا عن مشاكلهم بدل استغلال عواطفهم والصعود على أكتافهم.
إن اللباقة تمنعنا من أخذ نماذج من المقالات أو التقارير الصحفية وتحليلها لاستخراج الأنفاس الكريهة والسموم التي تنفث خلال كلماتها بالتحوير و التزوير والتزييف والتحريف, وبث الطائفية البغيضة والترويج لها بادعاء محاربتها، وإهانة المختلف والحط من شأنه بالطرق الملتوية مع المناداة بحق الاختلاف والدفاع عنه, وكبت صوت المعارض وكتم أنفاسه مع ادعاء الدفاع المستميت عن الحريّات وتوفيرها للجميع.