حينما يكون الدين بضاعة

حينما يتكسب واحد ما بالدين فذلك يدل على عدم صدق تدينه، فالدين منهاج لإصلاح الدنيا طلبا للآخرة، وما يعمل باسم الدين فواجب أن يكون قربة لله وطلبا لجزائه في الآخرة بالأساس، مع توقع ألطافه ورحمته التي يتولى بها عباده المحسنين في الدنيا، ومن تكسب بالدين فقد أحبط عمله وخفف يوم الحساب ميزانه.

ولكنك لو تأملت حال الناس اليوم لوجدتهم قد توسعوا وتفننوا في طرق التكسب بالدين، والاحتيال به في اقتناص الجوائز والمنافع، وعلى ألوان تستعصي على الحصر، ولا تكاد تخلوا منها فئة من الناس عاليهم ودانيهم.

وأول هؤلاء بالطبع هم رجال الدين ورجال السياسة، فأما رجال الدين فهم ما بين متفرغ عن العمل في غير شغل اللهم إلا خدمة الشئون الدينية للناس من صلاة وخطبة وجواب مسألة وحديث وعظ، فالدين نفسه هو مهنتهم ومن خلاله يعتاشون على أموال الحقوق وهدايا المؤمنين، وكلما توسعت الحقوق الشرعية التي تحت أمانته توسع في النفقة فيتزوج ثلاثا وأربعا وينفق على أربعة بيوت ويفتتح مكتبا وموظفين ويتخذ سائقا وخدما، ويسافر كل حين، بل ويتجر في مال الحق، كل هذا والمفروض أن هذا المال هو حق لغيره مؤتمن عليه وليس له أن يأكل منه على فرض جواز ذلك إلا بالمعروف.

ومنهم من يمتهن إمامة الصلاة وله مؤذن مأجور أيضا أو/ و الخطابة والقراءة الحسينية وإجراء عقود الزواج ويتفرغ لها دون عمل آخر يكتسب منه، فهم في اقتصاد الخدمات دون اقتصاد الإنتاج..

ومنهم من قام يبحث عن المناسبات المجهولة لوفيات الأولياء وأيامهم ليعيد إحيائها بالعزاء الذي سيقيمه هو وأمثاله توسيعا لمواسم الرزق، أو يعيدون العشرة ثم يعيدونها ثم يعيدونها تقوية لروح مذهبية واستدرارا للمال والجاه.

ومنهم – ويشاركهم من هنا متدينون من غير رجال الدين – من يعمد لبعض متعلقات الدين الجاهل أو المحرف فيتجر بها، وهؤلاء لهم وجوه كثيرة ومتعددة، فبعض يقرأ علم الحرف ( علم حساب الحروف) فيفك به الطالع ويقبض أجرا يتفاوت بحسب منزلة الزبون أميرا أو خفيرا، وبعضهم يستخرج الجان والعفريت من ساحة البدن المحتل بتلاوة القرآن وبعض من الأذكار والحركات والدخان والضرب فيرتزق، وبعضهم يزوج الجان ويتزوج ويجاهد كفارهم ويدعوهم إلى الإسلام فيسلمون، يدفع ضررهم ويستمطر خيرهم ويفك بهم السحر والطلَّسم، ويخبر عنهم الغيب، ثم يقبض ويشترط وهذا هو عمله وحرفته.

وبعضهم يعالج بالقرآن أمراض البدن، فيتلوا أورادا يضمن للمريض على الله أنها تشفيه ثم يقبض، وبعض يسخّر قولا لله في العسل مثلا وأنه فيه شفاء ليدّعي على الناس أنه الخبير بعسل الشفاء وأن ما كل عسل فيه شفاء بل عسله فيبالغ في السعر أضعافا مجرجرا النفوس بكلام الله ليفتح جيوبهم بأضعاف مضاعفة تربو على السعر السمح.

ومثلهم من وظف أقوال النبي في التمر تمر العجوة فتراه في المدينة المنورة يباع بأسعار خيالية، أو قل كانت خيالية وذلك بعد أن بزهم فيها بعض تجار تمور المدينة المنورة الذين صاروا يتاجرون في تمرها أو قل في رائحة النبي في تمرها فيبيعون كيلو التمر بما يزيد عن عشرة دنانير وحقه لا يزيد عن الثلاثة. ومثلهم من اكتشف قولا عن النبي في حبة البركة أو الحبة السوداء فأنزل أدوية وعصائر ومأكولات يبيعها بغالي الأثمان يدّعي أنها تشفي من عظيم العلل والأسقام ولا هم له إلا أمران أولهما الإغراق في جر العقول والقلوب للسلفية وثانيهما التوفر على المال الغفير مقابل الشيء اليسير.

ومثلهم من صار يعبّئ ماء زمزم أو ماء العباس ومن يطوف بقماشة على مشاهد الأولياء أو على الكعبة ثم يأتي يوزع منها خيوطا على المحبين البسطاء مقابل ثمن معلوم أو هدية مفترضة، ومنهم من يتاجر في طباعة الكتيبات ثوابا لروح الميت توظيفا للحالة النفسية الخاصة التي يمرون بها ورغبتهم مع قلة حيلتهم في فعل شيء يتسبب في رحمته في رحلته للعالم الآخر فيوزعون كتيبا فيه آيات ودعاء على روح المتوفى، من دون أن يعلم أحد استفادة الميت من ذلك أو عدم استفادته ولكن برجاء المطلوبية كما يقولون، كما كانت الناس من قبل حين أميتها تكلف من ختم قراءة القرآن بقراءة ختمات لروح أمواتها مقابل أجر كان زهيدا يومها ثم ارتفعت أسعاره فيم ارتفع من الأسعار.

ومنهم من يتخذ أجرا على الأذان وغسل الميت وتكفينه وتلقينه وهي كلها واجبات كفائية والواجب لا يجوز أخذ الأجرة عليه إلا أجر الآخرة، ولكنها أحابيل السلاطين وحيل المفتين الشرعية وطمع النفوس في المال أفسدت كل شيء .

وهناك من يتكسب بالدين جاها وسمعة فيهتم باتخاذ سمت التدين لباسا وحركات وتخشعا وفي ظنه أن يحظى بتبجيل الناس وإكرامهم له بصدور المجالس ورفع الذكر وربما تسهيل الزواج والنيابة في الحج والعمرة والتقرب من العلماء وذوي القدر من أهل محلته وبلدته.

واليوم هناك من يتكسب بالصوت يترنم بالنشيد والقرآن فيسجل ويبيع وينال الشهرة في الناس والحظوة عند النساء المؤمنات تماما كما المغنين عند غيرهن، ثم يحظى بفوائد الإعلان في الفضائيات والتكريم في التجمعات والدعوة للولائم، فاليوم بقرة الدين تدر غزيرا.

كل هذا ومثله قبيح مذموم يدل على كذب التدين واتخاذ الدين جملا نحو المقاصد الدنيوية، ولكن ليس هذا بشيء في درجة الإثم أمام الذين يعظمون أشخاصهم من خلال تعظيم مذاهبهم وفقهائهم وأئمة مذاهبهم وقياداتهم الدينية إلى درجة الغلو المفرط، وهي عادة ليست بالجديدة على المتدينين منذ أن تفرقوا مذاهب وتحزبوا أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، فما من إمام مذهب أو شيخ طريقة أو فقيه مقلد مشهور أو عالم دين مبجل عند مريديه إلا وتقرأ أو تسمع فيه غلوا لن يكون آخره أنه علىّ بن أبي طالب هذا الزمان. وأما رجال السياسة فأمرهم مكشوف وحيلهم ساذجة، ومع ذلك فهي أشد مضيا في الناس من حيل المتدينين إلا رجال الدين، لا لأنها أشد إحكاما بل لأنها محفوفة بالمطامع والمخاوف بالترهيب والترغيب، فيصدقها الناس رغبا ورهبا، وينفعهم في ذلك أنهم يدفعون ليشترون فيدفعون المال سيد النفوس ويأخذون المواقف والبائعون للمواقف أكثر من رمل عالج.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة