كان زوجان يشاهدان التلفاز حين لمحا فأراً عابراً من أمامهما، وبعد مطاردةٍ له فرّ خارج المنزل، فأخذ الزوجان يتحدثان عما حدث لهما للتو، فقالت المرأة: جيدٌ أننا حاصرناه لكي يضطر أن يخرج من الخرق الموجود تحت الباب، فردّ عليها الزوج: في الواقع هو خرج من الخرق الذي كان عند المرآب، فردت المرأة باستنكار: إنه خرج من خرق الباب وليس المرآب، ورد الزوج بغضب: وهل تقصدين أنني أعمى لا أستطيع تمييز خرق الباب من المرآب؟ فأجابته بغضب أشد: وهل أنا العمياء إذن؟ وتصعّد الشجار حتى أقحم كلاهما أمورهما العالقة معاً من الماضي، ومن ثم تطوّر ليشمل انتقاد كل منهما لشخصية الآخر، فخرجا من إطار الخرق ودخلا في إهانة وتجريح بعضهما حتى تثاقل قلب كل منهما على الآخر واستمرّا حتى قرّرا الانفصال. وبعد جهد من أهل الطرفين لمحاولة الإصلاح، تصالحا، وفي طريقهما إلى منزلهما، عبّر كل منهما كيف أنه لا يستطيع الاستغناء عن الآخر، وبين الحديث، قالت الزوجة: ولكن بغضّ النظر عما حدث، لدي سؤال كلّما حاولتُ لم أجد له جواباً، كيف لم تر الفأر يخرج من خرق الباب؟!

العديد منا يواجه صعوبة في ترك الأمور تسير بسلاسة حين نقول وجهة نظرنا ورأينا ولا يقبلها الطرف الآخر لسبب ما، كأن يراها خاطئة أو خالية من الدقة أو المنطق، فتتكوّن لدينا رغبة ملحّة لإثبات أنّ ما نقوله هو الصواب وأنّ الرأي الآخر هو الخاطىء، ولا نرى حرجاً في الدخول في نقاش لا يلبث أن يتحوّل إلى جدال عقيم لا يسمع فيه أيّ طرف الآخر لفهم ما يقول أو معرفة ما يقصد، بل ليتصيّد مكامن ضعفه لكي يستطيع أن يستخدمها كأداة وحربة لإثبات خطأه.

وقليلاً ما يمرّ هكذا جدال بسلام، إذ ليست الكلمات فقط هي التي قد تجرح أو تؤذي، بل لحن الكلام ونبرة الصوت التي عادة ما تكون حادة في هكذا نقاشات، فتترك أثراً ثقيلاً في النفس، وللتخلّص من ذلك الأثر نحن بحاجة إلى القدرة على التحكم في اختيار ما نسمح له بالترسب في نفوسنا، وهي مهارة دقيقة قد نفتقر إليها، حتى لا نخلق تراكمات توصلنا إلى مرحلةٍ يكون فيها مجرد سماع صوت شخص ما يثير التوتر والإرباك بداخلنا، فحتى لو قال كلمات لا يقصد بها سوءً، يسهل علينا تلبيسها معنى لم تكن تحتويه، فنزيد من كثافة تلك الترسّبات.

فالجدال يستنزف من الطرفين طاقةً كبيرة، ويزرع بذور البعد وأحياناً الفرقة وربما الكراهية، حتى مع من تربطهم ببعض علاقات متينة كالأزواج والأبناء والإخوان والأقارب والأصدقاء، فهذه العلاقات أساسية لتطوير الجوانب الشخصية والعاطفية والنفسية للإنسان، وحين يُفسد الجدال زوايا من هذه العلاقة، قد تتأثر تلك الجوانب ومعها المودة أيضاً.

من الأسهل على الآخرين أن يستمعوا لما نقول ويفكّروا به بعمق ويقبلوه إذا ما استشعروا أنّ ما نقوله لا يحتوي جانبا شخصيا لإثبات الذات، وأنه ليس خطاباً فوقياً، بل هي وجهة نظر نقولها حين تكون بها منفعة، أو لا يكون بها ضررٌ على أقلّ تقدير، وأننا حين نشعر بالرغبة في الانجرار وراء الجدال، نسأل أنفسنا، هل فعلاً نجادل لأننا نريد أن يعرف هذا الشخص حقيقة غائبة عنه لا يستقيم أمره إلا بها؟ وهل فعلاً الجدال سيوصله لمعرفة تلك الحقيقة؟ فلعلّنا إن فكرنا بذلك نغتنم لحظات أكثر ننعم بها بالسلام مع أنفسنا ومن حولنا، ونحفّز الآخرين للتفكير بوجهات نظرنا ولو أظهروا لنا خلاف ذلك.

ولنا في الأدب الجم لسيد الخَلق عند الحديث مجالاً لا ينتهي من التأمل “{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ، قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(سبأ/24، 25)”.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة